جبران الجَهير بين “البشير” و”السمير” (2 من 2)
هنري زغيب*
في الجُزء الأَول من هذا المقال (“أَسواق العرب” – الجمعة 31 كانون الثاني/يناير) نشرتُ تقديمَ جريدة “السمير” (عدد 15 تشرين الأَول/أكتوبر 1931) مقالًا في مجلة “البشير” ادَّعى أَنَّ جبران كان كافرًا و”تاب عن كفْره”. وهنا ردُّ “السمير” على ادعاء “البشير”.
“لجريدة “البشير” – التي تَنطُق بلسان رجال الدين – أَن تعتبرَ جبران كافرًا أَو زائفًا أَو مضلِّلًا. هذا رأْيٌ لها لا نجادلها فيه ولا نستغربه منها. لكنَّ الذي قرأْناه لها عن “توبة” جبران، يَجمع بين المضحك والمبكي، لأَنه يجعل من جبران كافرًا ومؤْمنًا في وقت واحد، بل يَمسَخُه فإِذا هو عندها لا من الكافرين ولا من المؤْمنين. ولما كانت سيرة أَديب كبير كجبران يجب أَن تكون خاليةً من شوائب اللبْس، مُنَزَّهَةً عن لوثات الوهم – سواء عَدَّهُ رجالُ الدين مؤْمنًا أَو كافرًا، وسواء شجَبوا بعض كتاباته أَو كلَّها – رأَينا، نحن الذين عايشنا جبران زمنًا طويلًا، أَن نروي ما نعرفه عنه من هذه الناحية، حتى إِذا قام غدًا مؤَرخٌ يَسرُد سيرة حياته استطاع أَن يَسرُدها بلا عناء، وأَن يأْتي بها صريحةً لا غموضَ فيها ولا إِبهام.
عاش جبران لا ينتمي إِلى مذهب من المذاهب الدينية، لا في أَقواله ولا في أَعماله، بل كَوَّن لنفسه عقيدةً خاصة مستقلة تختلف عن تلك التي وُلِد فيه وتربَّى عليها. وهي مبثوثةٌ في كتبه وقصائده ورسومه، وقد مات دون أَن يَعْدِلَ عنها أَو يُبدِّل شيئًا منها. وهذا نقوله لفائدة “البشير” التي راق لها أَن “تَرُدَّه إِلى حظيرة الإِيمان” بعد أَن عَقَلَ الموتُ لسانَه وحطَّم صولجانَه. فنحن – عشراؤُه الأَدنَون – لم نسمع منه، ولم نقرأْ له كلمةً تدُلُّ على أَنه جَحَد شيئًا من نظرياته ومبادئه. بل الذي نعرفه أَنه لم يرجِع في حياته إِلى كاهن، ولا مارس سرًّا من الأَسرار التي تفْرضُها الكنيسة على أَبنائها المؤْمنين، وآراؤُه في يسوع تختلف كثيرًا عن آراء “البشير”. وعندما سأَلَتْهُ الممرضة في المستشفى، وهو في وعيه، عمَّا إِذا كان كاثوليكيًّا، أَجاب: “كلَّا”. لذا فحديث “التوبة” مكذوبٌ ومدسوسٌ عليه، لأَن جبران بقي على مبادئه حتى أَطبَقَ الردى أَجفانَه. وإِذا كانت “التوبة” التي أَشارت إِليها “البشير” قد حدَثَت بعد وفاته، فتلك أُعجوبةٌ يَصعب تصديقها حتى على “البشير”.
أَخيرًا: لم يعتقد جبران قط أَنه “زائغ” (بالمعنى المفهوم من رجال الدين) لكي يَتُوب، أَو “كافر” لـ”يرتدَّ إِلى حظيرة الإِيمان”. كان جبران يؤْمن بالله على طريقته، ولرجال الدين أَن يعتبروها خروجًا على الدين أَو إِلحادًا، إِنما لا يُسَوَّغ لهم أَن يَقْبلُوا من جبران بعضَه ويَنْبذوا بعضَه الآخَر. جبران واحد لا اثنان، ولا يُفيدهم أَن يأْخذوا شُهرتَه كـ”رجل ممتاز” ويَشجبوا كتاباته ويحظِّروا مُطالعتَها. ليس جبران ذاك “الرجل الممتاز” إِلَّا بكتاباته، فإِذا شَجَبوها شَجَبُوه” (إِلى هنا ينتهي ردُّ “السمير” على “البشير”).
ودِدْتُ أَن أُثني على نص “السمير” وأُجادلَ نص “البشير”، لكنني تنبَّهتُ إِلى أَنَّ جبران ذاتَه كان سلَفًا صَفَعَ افتراءَات أَمثال “البشير” بهذه الخاطرة من كتابه “رمل وزبد”: “مرَّةً كلَّ 100 سنة يتقابل يسوعُ الناصريّ ويسوعُ المسيحيين في حديقةٍ بين تلال لبنان، ويتحادَثان طويلًا. وكلَّ مرة ينصرفُ يسوعُ الناصري قائلًا ليسوع المسيحيين: “أَخشى يا صديقي أَننا لن نتَّفق أَبدًا”.
صحيح: كاتبُ “البشير” وأَمثالُه لن يتفقوا أَبدًا مع جبران، بل سيكَفِّرونه دائمًا لأَنه لم يكن يُؤْمن إِلَّا… بيسوع الناصريّ.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).