صَدّام وروكفِلر (1 من 3)

كُنَّا في “أسواق العرب”، نشرنا فصولًا من كتاب: “العراقي الغامض – قراءة متأخّرة في عقل صدام حسين”، للزميل سليمان الفرزلي. ها هنا ننشرُ، على حلقاتٍ ثلاث، فصلًا جديدًا من الكتاب الذي بات مُعَدًّا للطبع.

دايفيد روكفلر وهنري كيسنجر: حمل الأول من الثاني رسالة إلى صدام حسين فحدث اللقاء بين الأخير وشاه إيران.

سليمان الفرزلي*

رآه، فأسرع دايفيد روكفلر الخُطى للقائه، كان هنري كيسنجر خارجًا من قصر “بلير هاوس” في واشنطن، الذي كانت الإدارة الأميركية استملكته سنة 1940، وخصّصته لضيوفها من الرؤساء، والملوك، والأمراء الأجانب.

على الرُغم من أنه لم يكن مضى كثير وقت على لقائهما في الاجتماع الفصلي لمنظمة “تريلاترال”، التي انضمَّ إليها كيسنجر، وكان أسّسها دايفبد روكفلر، بعد خلافه وانسحابه من مجموعة “بيلدربيرغ”، بسببِ رفض غالبية أعضائها إدخال اليابان إليها، إلّا أنَّ هناك، دائمًا، ما يجذب الرجلين إلى الحديث وتبادُل الآراء. علاقتهما كانت ضاربة في الزمن، فقد التقى دايفيد روكفلر “العزيز هنري”، قبل أن يسير ذكره كل مسير، سنة 1954، عندما انضمَّ إلى “مجلس العلاقات الخارجية” الذي ترأسه روكفلر سنة 1949، وكانا التقيا ثانية، في مجموعة “بيلدر بيرغ”.

نزلت المجاملات على الكلام بين الرجلين، ثم، دار الحديث حول ما يجري في إيران مع صديقهما المشترك الشاهنشاه محمد رضا بهلوي. توهّج صوت هنري كيسنجر: “أنا عازمٌ اليوم على الاتصال بطهران، فما رأيك في أن نتابع الحديث غدًا”.

رانَ الصمت برهات، قطعه روكفلر، وقال هازًّا برأسه: ” كان بودّي، إلّا أنني غدًا على سفرٍ… إلى بغداد”.

اقتحمت رأس كيسنجر علامات الاستفهام، وقبل أن يستفسرَ، قال روكفلر: “دعاني عدنان الطيّار، مدير “مصرف الرافدين” للتفاهم على آلية الدفع للمعاملات التجارية، بين الولايات المتحدة والعراق، وقد باتت في الآونة الأخيرة على تزايد”.

كان هنري كيسنجر، يُدركُ ببُعد نظره، مكنونات صديقه، الذي كان نجمه يلمع في فلك المال، والأعمال، و… السياسة، ويعرف مليًّا مدى قدرته، بثاقب عقله، على التفاوض والإقناع، وقد جرّبته الإدارات الأميركية المتعاقبة، في مهمّاتٍ صعبة.

لمعت فكرة في رأس هنري كيسنجر، حاول أن يجمع لها كلمات مُقنِعة: “قد يكون من المُفيد، وأنتَ في بغداد، أن تطلُبَ مقابلة صدّام حسين، وإبلاغه رسالة مني، بأنَّ الإدارة الأميركية، ترغبُ في تطوير العلاقات مع العراق على الصُعُدِ كافة”.

شعر كيسنجر أنه امتلك اهتمام صديقه المجرَّب الخبير، فتابع: “يُمكنك أن تذكر له، أيضًا، بأننا نرى دورًا مهمًّا له في توطيد أمن الخليج، واذكُر له أنني تباحثتُ مع الشاه مطوَّلًا في هذا الموضوع، إننا نثق بأنَّ هناك امكانية لتلاقي بغداد وطهران على فضلى العلاقات التي من شأنها أن تُعزّزَ الاستقرار في تلك المنطقة الحسّاسة”.

لم يكن دايفيد روكفلر، بعيدًا عمّا كان صديقه وزير الخارجية المُحنّك، يفكّر به، فهو، بدوره جسَّ نبضَ الشاهنشاه حول العلاقة مع “الجار المشاكس”، كما كان الجالس على عرش الطاووس يُسمّي العراق.

***

صباح يوم 28 كانون الثاني (يناير) 1975، حطت الطائرة التي أقلت دايفيد روكفلر في مطار بغداد الدولي.

كان عدنان الطيار، في استقباله في “فندق بغداد”، طلب منه روكفلر أن يُرتِّبَ له موعدًا مع الدكتور سعدون حمادي، وزير الخارجية، فكان له ما رغب به وأراد.

جلس سعدون حمادي إلى طاولة مكتبه، مُتَجَهِّم الوجه، تنعكسُ على قسماته قساوةٌ ظاهرة. قاوم روكفلر، امتعاضه من استقبال الوزير الجاف، مضى يشرح له برباطة جأش، سبب المقابلة، طالبًا منه ترتيب لقاء مع “السيد النائب” صدام حسين، عاجلًا، فهو سيغادر بغداد الى بيروت صباح اليوم التالي.

ابتسم سعدون حمادي إبتسامة صفراء، وقال بنبرة جازمة: ” هذا غير مُمكن…”.

وسكت، كأنَّ في داخله ما يربط لسانه، أو، كأنه يريد أن يُنهي المقابلة.

بادره روكفلر بنبرةٍ هادئة واثقة: “إنني أحمل رسالة من هنري كيسنجر الى سيادة النائب صدام حسين”.

شعر روكفلر أنه استمكن منه.

ردَّ سعدون حمادي بحنق: “ما هي هذه الرسالة، اعْطنيها، وأنا اُسَلِّمها لسيادة النائب”.

قال دايفيد روكفلر المُتأهّب لكلِّ الظروف: ” آسف… لا أستطيع ذلك، فالرسالة شفوية، وقد كُلِّفتُ أن أُبلِغها بنفسي لصدام حسين”.

وقف، زَرَّرَ سترته بهدوء وقال: “على أيِّ حال، أنا أنتظر في الفندق، ومُستعدٌّ لمقابلة السيد النائب، خلال ما تبقى من ساعات هذا النهار، وطوال ساعات الليل”.

مدَّ يده، صافحه سعدون حمادي و…خرج.

كتب دايفيد روكفلر في دفتر مذكراته عن لقائه سعدون حمادي: “كانت المقابلة بيننا جافَّة، أَشهد للوزير حمادي تمكّنه من اللغة الإنكليزية، ومن ترتيب كلامه بأدقِّ العبارات”.

تهيَّبَ سعدون حمادي الموقف، استحوذَ عليه شعورٌ مُختلط من الحذر والخوف. الحذر من ردة فعل صدام حسين، إن عرف أنه قابلَ الأميركي النافذ قولًا وفعلًا في بلاده من دون إعلامه، فهو له آذان وعيون في كل إدارات ووزارات الدولة، والخوف ممَّا قد يفعله صدام. فقرّرَ أن يُقابلَ “السيد النائب” وينقل له ما دار بينه وبين الموفد الأميركي وما طلبه منه.

كان دايفيد روكفلر، في ضيافة آرثر لوري، القائم بالأعمال الاميركي في بغداد، يحتسي كأس “مارتيني”، عندما جاء من أبلغه، أن صدام حسين سيستقبله الساعة التاسعة والنصف مساءً.

***

لم يدعه ينتظر طويلًا، أطلَّ عليه، ينبعثُ من وجهه وقار الزعامة، قال كلمات مُرَحِّبة، ترجمها المترجم المُحلَّفُ بسرعة، ابتسم لها روكفلر، بادله بمثلها، ندَّت عن صدام حسين ابتسامة مقتضبة، لم ترتح لها أسارير الموفد الأميركي.

كان دايفيد روكفلر، الأميركي النافذ والمتنفّذ، الوحيد الذي قابله صدام حسين، فقد اقتصرت لقاءاته، من قبل، على صحافيين أميركيين بارزين، كلامهم مسموع في الأوساط السياسية، والاقتصادية، لكنهم لا يتمتّعون بالصفة الرسمية، أو القدرة التنفيذية.

كان من الطبيعي أن يبدأ اللقاء، فاترًا، وروكفلر كان يُدرك ذلك مليًّا، وهو الخبير المجرَّب، يعرف أنه ليس من السهل على الزعماء، الذين ناصبوا “الإمبريالية الأميركية” العداء طويلًا، إن في إيديولوجيتهم، أو في ممارساتهم السياسية، أن يستسهلوا الانفتاح السريع في لقاءاتهم مع من يمثل تلك الإمبريالية! فهو قد خبر ذلك من لقاءاته مع نيكيتا خروتشيف، وفيدل كاسترو، ويُدرك كيف تبدأ المقابلة وكيف تنتهي.

خلال اللقاء الذي استمرَّ ساعتين، إلى قرابة منتصف الليل، نزلت على الكلام بين الرجلين، مسائل عديدة. كانت بمثابة جولة أفق واسعة حول الوضع المهزوز في المشرق، وكان الجانب الأبرز العلاقات العراقية-الأميركية المضطربة، والمقطوعة من زمنٍ طال، وبدأ ينعكس سلبًا على البلدين.

يُستَشَفُّ، من النشرة “الحزبية الرسمية”، حول ما دار بين الرجلين، (كنتُ تلقّيتُ نسخة منها خلال رئاستي تحرير جريدة “بيروت”)، أنَّ نائب الرئيس العراقي، حدّدَ طريقة التعامل المرجوة من الولايات المتحدة التي يجب أن تكون” قاطعة مثل حدِّ السكين”، حسب تعبيره.

وسرعان ما شعر روكفلر بلطف المصارحة، والمطارحة، التي أبداها صدام حسين، وإيناسٌ جمَّ و”لطف وتهذيب”، غَيَّرَ وبَدَّلَ جو اللقاء.

نستعير من تقرير آرثر لوري، ما يُوضّح أكثر ما دار بين الرجلين واعتبره جولة أفق مميزة: “الاجتماعُ كان مُريحًا، جرت فيه مُباسطة سلسة، وطبيعية، حول الشؤون التي جرى بحثها”.

وأكّد لوري، في ما كتب، أنَّ دايفيد روكفلر كوَّن انطباعًا جيدًا عن صدّام حسين، خصوصًا بعدما وافق أن تقومَ بعثةٌ من مصرف روكفلر، “تشايس منهاتن”، بمراجعة خطة التنمية الخمسية في العراق وإبداء ملاحظات حولها.

والأهم أنَّ “السيد النائب،” أبدى اهتمامًا برسالة كسينجر الشفوية، لكنه لم يُعطِ أيَّ جوابٍ حقيقي عنها.

خلال الحديث المطوَّل، أبدى صدام حسين شكوكًا حول السياسة الأميركية، التي تحاول وضع العراق بين “كفَّي كماشة”، قطباها إيران وإسرائيل.

فأجابه روكفلر بمطالعة مطولة استرعت اهتمام صدام حسين، لكنه لم بُعلّق عليه!

***

ما أن سرى خبر لقاء صدام حسين ودايفيد روكفلر، حتى دارَ الهمسُ الخبيث في بغداد وواشنطن.

في بغداد ، تداولت أوساط الشيوعيين العراقيين، والمُتشدّدين في “حزب البعث”، تساؤلات حول السبب الذي حَدَا بالسيد النائب مقابلة المصرفي الأميركي، بينما تَمَنَّعَ عن مقابلة شخصياتٍ سياسية أميركية مرموقة كانت طرقت باب بغداد،  أبرزها السناتور إدوارد كنيدي، والسناتور وليام فولبرايت… لقد كان ملاحظًا،  للمتابعين، أنَّ “الجبهة الوطنية الديموقراطية” التي ضمّت الشيوعيين، وتمَّ، بعد اتفاق الحكم الذاتي للأكراد سنة 1970، إدخال أعضاء منها في مناصب وزارية شكلية،  قد أدت غرضها، فأدار صدام حسين ظهره لها، بعدما تمكّن من السيطرة على المفاصل الأمنية الحقيقية في البلاد، وأصبح الرجل القوي فيها، فما عادَ أيُّ شيءٍ يتمُّ، أو يجري،  من دون رضاه وموافقته. لذلك، لم يكن تصرّفه “البراغماتي” مع واشنطن، بقبوله استقبال دايفيد روكفلر، خفيف الوقع على قلوب معارضيه الشيوعيين والبعثيين على حدٍّ سواء.

أمّا في واشنطن، فإنَّ الدوائر الإعلامية، والسياسية غير الراغبة في إقامة علاقات قويَّة مع بغداد، راحت بعد أيامٍ من زيارة روكفلر، تستقصي، وترسم حول تلك المقابلة كل علامات الريبة والشك، وتشنُّ حملةً دعائية كاذبة عن موافقة النظام العراقي على إقامة قاعدة بحرية سوفياتية في ميناء “أم قصر” القريب من البصرة، وأنَّ ذلك يضع السوفيات في قلب منطقة النفط في الخليج وفي إيران، وهذا يُشكّلُ خطرًا استراتيجيًا على الغرب!

لكي يقطع صدام حسين الشك باليقين، وإفساحًا منه في المجال لإثبات حسن النية التي جاء بها روكفلر، استقبل الصحافي الأميركي المشهود له، رولاند إيفانز، وطلب منه أن يزورَ منطقة “أم قصر” ليتأكّد بنفسه من عدم صحة المزاعم حول القاعدة البحرية السوفياتية. وبالفعل زار إيفانس تلك المنطقة وكتب تقريرًا حمل اسمه واسم شريكه روبرت نوفاك، فكمّم التقرير الأفواه المُحرِّضة، وسد الأبواق المشوّشة في هذا الموضوع (1).

***

بعدما أنهى دايفيد روكفلر مهمته، وأنجزَ ما جاء، في الأصل، لأجله مع “مصرف الرافدين”، سافر في اليوم التالي، (الخميس في 29 كانون الثاني/يناير 1975)، إلى بيروت على متن طائرة تابعة لشركة “طيران الشرق الأوسط”، (الرحلة 303)، ليتفاجأ أنَّ جريدة “النهار” نشرت خبر زيارته إلى بغداد، ولقائه صدام حسين. أَخَذَهُ الدَّهشُ، واستغرب لمَّا قرأ ترجمة للخبر، فهو أمسك عن التكلُّم في الموضوع حتى أمام أقرب المقرَّبين منه، وأمام الصحافيين، الأميركيين والعرب، فكيف وصل الخبر الى الجريدة اللبنانية؟

مما لا شكَّ فيه عندنا، أنَّ العراقيين وجدوا أنه من المناسب “تسريب الخبر”، كما فعلوا، من قبل، في العام 1970 بعد زيارة صدام حسين السرية الى بيروت، لاستيعاب الصدمة التي هزّت التنظيمات البعثية خارج العراق، وربما خيبة بعثيين عراقيين كثيرين، من انسحاب الجيش العراقي الذي كان مُرابطًا في الأردن. في المرتين اختاروا “النهار”، التي لا توالي “البعث”، وليست قريبة من بغداد!

لم تنقضِ أيامٌ ثلاثة على اللقاء بين صدام وروكفلر، حتى وقَّعت “الخطوط الجوية العراقية” بتاريخ 31 كانون الثاني (يناير) 1975 على صفقةٍ تجارية مع شركة “بوينغ” لشراء عدد من طائرات الركاب، وكانت تلك، أكبر صفقة عقدتها “بوينغ” مع أيِّ دولة عربية حتى ذلك الوقت، وقد تضمنت شراء طائرة واحدة طراز 737، وثلاث طائرات طراز 727، وأربع طائرات طراز 747 (جامبو)، بما قيمته يومئذٍ 220 مليون دولار نقدًا وعدًّا (2).

لكن التحوُّل الأهم، في المسار الصعب للعلاقات بين واشنطن وبغداد، تمثّلَ في قبول صدام حسين الاقتراح الأميركي للتفاهُم مع الشاه محمد رضا بهلوي. فاجأ هذا “القبول” الجهات المحلية ولم تتوقعه القوى الإقليمية، وربما الدولية أيضًا، نظرًا إلى انخراط إسرائيل، (بدفعٍ سرّي من واشنطن)، في دعم وتأجيج نار التمرّد الكردي في شمال العراق، بقيادة المُلّا مصطفى البارزاني.

لقد كان ذلك التفاهُم أهمّ حادث مفصلي في تاريخ العراق الحديث، منذ إطاحة النظام الملكي سنة 1958، وما كان ليتم، لولا الأصابع الأميركية التي حرّكت كل شيء من وراء الستار: كيسنجر هَنْدَسَ، وروكفلر مَهَّدَ، سَمِعَ الشاه لكيسنجر، وصدام لروكفلر، توقّفَ التدخُّل الإسرائيلي في شمال العراق، وانقطع الدعم الإيراني، فانهار التمرُّد الكردي، وفرَّ المُلّا مصطفى البارزاني لاجئًا إلى الولايات المتحدة حيث فارق الحياة.

كان من الطبيعي أن يؤدّي، تفاهُم أكبر دولتين مُطِلَّتَين على الدول الخليجية الصغيرة، إلى نشوءِ مخاوف جدّية لدى تلك الدول، ليس أقلّها، اقتسام النفوذ بينهما في الخليج، خصوصًا إذا كان ذلك قد تمَّ، كما هو ظاهر، برعاية الولايات المتحدة.

(الحلقة الثانية تتبع يوم غد).

  • سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

 شواهد وأسانيد

1) الثنائي الصحافي الأميركي، رولاند إيفانس، وروبرت نوفاك، هما بين الصحافيين الأميركيين من أشهر كتاب المقالات والتحقيقيات، خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وكان إيفانس ونوفاك يكتبان معاً ويوقعان إنتاجهما معاً. وما نشره هذا الثنائي، كان موثوقاً الى درجة لا يمكن دحضه، مع أنهما في السياسة كانا ينتميان الى اليمين الأميركي في “الحزب الجمهوري”. في القضايا التي تناولاها بالبحث والتدقيق، كانت تحقيقاتهما بمثابة الكلمة الفصل في أي مسألة، خصوصاً في المسائل الدولية الكبرى.

من القضايا المهمة التي فصلا فيها قولاً واحداً، ما روج من أقاويل حول وجود قاعدة بحرية سوفياتية في ميناء “أم قصر” العراقي، بالقرب من مدينة “البصرة” في جنوب العراق في أواسط سبعينات القرن الماضي، فقام رولاند إيفانس بمقابلة نائب الرئيس صدام حسين، الذي أجاز له أن يذهب الى هناك ويحقق بالأمر شخصياً. وعندما نُشر مقال إيفانس ونوفاك نافياً ومكذباً تلك الأقاويل، سكتت على الفور كل الوسائل الإعلامية الأميركية التي أطلقت تلك الشائعات.

كانت مقالات الثنائي، إيفانس ونوفاك، تُنشر في جريدة “واشنطن بوست”، و”نيويورك تايمز”، وابنتهما الدولية “هيرالد تريبيون إنترناشيونال” في باريس، كما كان لهما حق النشر في صحف أميركية عديدة، في مختلف أنحاء الولايات المتحدة استمر أكثر من ثلاثين عاماً، (من خلال مؤسسة حصرية لبيع مواد النشر في عدة صحف ومجلات في وقت واحد).

ليس لتكذيبهما وجود قاعدة بحرية سوفياتية في مياه العراق على الخليج العربي، الدليل الوحيد على جدية نفوذهما، الصحافي والسياسي في الولايات المتحدة، إنما، أيضاً، المقالة التي كتباها حول مقابلة أجراها نوفاك عام 1978، مع الزعيم الصيني دينغ هسياو بينغ (خليفة ماو تسي تونغ، ورائد حركة الانفتاح الاقتصادي على العالم الخارجي بالتدريج، بعد إخفاق “الثورة الثقافية” التي قادها سلفه الراحل)، فكانت تلك المقالة المحرك الأول لحكومة الولايات المتحدة باتجاه تطبيع العلاقات مع الصين الشعبية.

2) كان وصول أول طائرة “بوينغ (جامبو) الى مطار بغداد، يوماً مشهوداً، حسب مصادر أميركية، لمفاجآت رافقت ذلك الحدث. فقد أقلت تلك الطائرة على متنها في رحلتها الأولى، من واشنطن الى بغداد، عدداً كبيراً من مدراء شركة “بوينغ” الصانعة لتلك الطائرة ومعهم زوجاتهم. وعندما حطت الطائرة في مطار بغداد، ونزل ركابها الى أرض المطار، قام بعض العراقيين المتواجدين هناك بنحر عدة خراف، تيمناً ومجلبة للحظ السعيد، وهي عادة عربية شائعة الى اليوم، ثم قام ذابحو تلك الخراف بتلطيخ أكفهم بدمها وطبعه على مقدمة الطائرة وجنباتها، مما أصاب بعض النسوة الأميركيات بالذعر، فقفلن راجعات الى مقاعدهن داخل الطائرة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى