تاءُ التأنيث تُغَيِّرُ المملكة العربية السعودية
يبدو أنَّ الإصلاحات الاقتصادية التي أطلقتها رؤية السعودية 2030 جعلت إقتصاد المملكة أكثر إنتاجية، والأسر أكثر مرونة، والسعوديين أكثر تسامُحًا الأمر الذي فَتَحَ الأبواب أمام النساء لعصرٍ جديد.

جينيفر بيك*
في أيار (مايو) 2023، أصبحت مُهندِسةُ الطبِّ الحيوي السعودية ريانة برناوي أولَ امرأةٍ عربية تَصعَدُ إلى الفضاء عندما انضمّت إلى مهمّةٍ قامت بها شركةٌ خاصة إلى محطة الفضاء الدولية. اشتهرَت المملكة العربية السعودية مُنذُ فترةٍ طويلة بقيودِها الصارِمة على عمل النساء، لكنها سارعت في السنوات الـ15 الماضية لمنح المرأة المزيد من الفُرَصِ للعمل خارج المنزل. كانت رحلة برناوي مجرّد واحدة من أُولى عديدة أخرى: أصبحت مئات الآلاف من النساء السعوديات الآن أول عضواتٍ في أُسَرِهِنَّ يعملنَ خارج المنزل في أماكن مثل دور السينما ومحطات القطار ومراكز التسوّق ومكاتب الشركات، مُستفيدات من مجموعةٍ من الفُرَصِ التي لم يكن من الممكن تصوُّرها للأجيال السابقة.
تاريخيًا، كانَ توظيفُ المرأة في المملكة العربية السعودية مُنخَفِضًا للغاية، سواءَ وفقًا للمعايير العالمية أو معايير الشرق الأوسط. في العام 2011، كان 56% من الرجال السعوديين يعملون، لكن 10% فقط من النساء السعوديات كنَّ يعملنَ. ولطالما شجعت الحكومة السعودية النساء على الحصول على شهادات الدراسة الثانوية والالتحاق بالجامعات، ودرسَ العديدُ من النساء في الخارج بمنحةِ الملك عبد الله، التي تدعم الطلاب السعوديين الذين يسعون للحصول على شهاداتٍ في جامعاتٍ أجنبية. لكنَّ الدخلَ المُرتَفِع نسبيًا للرجالِ السعوديين وبرامج الدعم الاجتماعي الواسعة التي تُقدّمها الحكومة، جعلت من الممكن ماليًا لمعظم النساء البقاء في المنزل وعدم العمل. وقد اختارت الكثيرات عدم القيام بذلك، نظرًا للمعايير الثقافية القوية للمملكة ضد التفاعلات المختلطة بين الجنسين. واجهت النساء اللاتي عملن خارج المنزل قيودًا قانونية أيضًا؛ لقد مُنِعنَ من بعض الصناعات والمهن ومن المُناوَبات الليلية.
لكنَّ احتجاجات “الربيع العربي” في الفترة 2010-2011 أجبرت الحكومة السعودية على مواجهةِ حقيقةٍ مفادها أنَّ ارتفاعَ معدّلات البطالة بين الشباب لم يعد من الممكن معالجته من خلال توفير وظائف في القطاع العام فقط. كان عدد السكان يفوق عائدات النفط في البلاد. وكان للحملة الحكومية اللاحقة لدفع القطاع الخاص للبدء في خلق المزيد من فُرَصِ العمل للسعوديين تأثيرٌ غير مُتَوَقَّع يتمثّلُ في زيادةِ الفُرَصِ ليس فقط للرجال ولكن أيضًا للنساء، اللواتي انضممن إلى القوى العاملة بأعدادٍ صدمت صنّاع السياسات: اعتبارًا من العام 2023، 31% من النساء السعوديات تم توظيفهن. وهذا التحوّلُ يُعيدُ تشكيلَ الاقتصاد والمجتمع: فقد أصبحت المرأة السعودية مصدرًا لإمكاناتٍ اقتصادية هائلة وحضورًا واضحًا وقويًا في الحياة العامة في المملكة.
ربيعُ المَدِّ والجَزر
استفادت المرأةُ السعودية منذ فترة طويلة من نظامِ التعليمِ العام الشامل، مع توفُّرِ التعليم المجاني حتى مرحلةِ الكلية وفي كثيرٍ من الأحيان بعدها. بدأ التعليم الرسمي للنساء والفتيات مُتاحًا على نطاق واسع في الستينيات، عندما أعلن الملك سعود بن عبد العزيز التزامه بتعليم الفتيات المواد التي من شأنها إعدادهن للأمومة. وبفضلِ دَعمِ نخبةِ النساء السعوديات، توسّعَ التعليمُ العالي للنساء في الثمانينيات. لكن هذا لم يُترجَم في كثيرٍ من الأحيان إلى عملٍ ووظائف في القطاع الخاص: قبل العام 2010 تقريبًا، كان نحو ثُلثَي النساء السعوديات الموظفات والعاملات يعملن في القطاع العام، وكانت الغالبية العظمى منهنَّ في مدارس البنات.
كانت مثل هذه الوظائف ذات مكانة عالية ومرغوبة اجتماعيًا؛ وكثيرًا ما عَرَضَت عليهنَّ أجورٌ أعلى، وأمنًا وظيفيًا أفضل، وساعات عمل أكثر جاذبية، وبيئات عمل تَفصُلُ بين الجنسين. وكان العملُ في القطاعِ الخاص غير النفطي، مثل وظائف البناء والضيافة وتجارة التجزئة، أقل أجرًا وأقل جاذبية، حتى بالنسبة إلى الرجال. هذه الوظائف يشغلها عادةً العمال الوافدون: في العام 2011، شكّلَ السعوديون أقل من 15% من القوى العاملة في القطاع الخاص. وتُشكّلُ النساء جُزءًا صغيرًا من هذه النسبة الصغيرة بالفعل. 86 في المئة من الشركات السعودية الخاصة ليست لديها موظفات من النساء.
كانت احتجاجاتُ “الربيع العربي” في المملكة العربية السعودية أكثر اعتدالًا مما كانت عليه في العديد من البلدان الأخرى في المنطقة، ولكن البطالة أصبحت مصدرًا خاصًا للقلق العام. واستجابت الحكومة بقوة للحدِّ من البطالة بين الشباب ــوالتي كانت مرتفعة بشكل مثير للقلق، حيث بلغت 30%ــ واعتماد البلاد على العمالة الأجنبية. يعتقدُ صنّاع السياسات أنَّ الوظائف كانت موجودة، لكن لم يتم ملؤها من قبل السعوديين. بحلول حزيران (يونيو) 2011، أعلنت الحكومة عن حصةِ توظيفٍ سعودية لشركات القطاع الخاص وبرنامجٍ للبطالة يُقدّمُ مساعدة مالية شهرية للباحثين عن عمل. في الشهر الأول للبرنامج، قامت أكثر من 500 ألف امرأة بالتسجيل للحصول على المزايا، بما في ذلك الوصول إلى برامج التدريب عبر الإنترنت.
وبشكلٍ غير مُتوَقَّع، تضخّمت أعداد العاملات: فإلى جانب إغراء المزايا، اغتنم العديدُ من النساء فرصةَ العثور على عمل خارج المنزل. وبينما كانت الشركات تبحث عن موظفين سعوديين، قامَ العديدُ من الشركات بتعيين وتوظيف نساءٍ لأول مرة. وبحلول العام 2015، كان ما يقرب من ثلثي الشركات الخاصة الموجودة في المملكة العربية السعودية قد وظفت نساء، وتضاعفت حصة السعوديات في القطاع الخاص ثلاث مرات تقريبًا، لتصل إلى 27%.
دوّامةٌ تصاعدية
بعد “الربيع العربي”، أعلن الملك عبد الله بن عبد العزيز أيضًا عن إصلاحاتٍ خاصة بالمرأة. أصبحت المرأة السعودية مؤهّلة للتصويت والترشُّح في الانتخابات البلدية. نصّت القوانين التي دخلت حَيّزَ التنفيذ في العام 2012 على أن تكونَ أنواعٌ مُعَيَّنة من أعمال البيع بالتجزئة، مثل بيع الملابس الداخلية ومستحضرات التجميل، مفتوحة للنساء فقط، ما أدّى إلى زيادة كبيرة في عدد الوظائف المُتاحة لهنَّ.
وفي العام 2018، رفعت الحكومةُ الحظرَ المفروض على قيادة النساء للسيارات، وهو القرار الذي زادَ من قدرتهن على الحركة ومَكَّنَهُنَ من العمل في شركاتِ مشاركة للنقل مثل “أوبر”. في العام 2019، عَدَّلَت ما يُسمى بنظامِ الوصاية، الذي كان يتطلّبُ من المرأة الحصول على إذنِ أحدِ أقاربها الذكور للعمل أو السفر أو حتى الحصول على الرعاية الطبية. أنهى القانون الجديد هذه القيود وحظَّرَ على الشركات جعلَ إذنِ وليِّ الأمر شرطًا للتوظيف، مما يشير إلى أنَّ توسيع حقوق المرأة أصبح الآن أولوية بالنسبة إلى القيادة السعودية.
كان العديد من هذه الإصلاحات جُزءًا من الرؤية السعودية 2030، وهو برنامجٌ حكومي قدمه الأمير محمد بن سلمان، نائب ولي العهد آنذاك، في العام 2016 لتقليل اعتماد المملكة على النفط وبناء اقتصاد أكثر تنوعًا ومرونة. وكانت إحدى الركائز الأساسية للاستراتيجية الاقتصادية للبرنامج هي زيادة مشاركة المرأة في قوة العمل إلى 30% بحلول العام 2030. وفي ذلك الوقت، بدا هذا الهدف طموحًا، ولكن تم تجاوزه بالفعل.
في السنوات الست الماضية، أوضحت الإصلاحات الحكومية أيضًا الصناعات المفتوحة أمام النساء وأنواع الساعات التي يمكن للمرأة أن تعمل فيها، وجَرَّمَت التحرُّشَ الجنسي، وضمنت المساواة في الأجور واستحقاقات التقاعد، ومنعت أصحاب العمل من إنهاءِ خدمة العاملات الحوامل. كان التأثيرُ الصافي هو زيادة غير مسبوقة في الفرص الاقتصادية المُتاحة للمرأة في جميع أنحاء المجتمع السعودي: فقد أصبح عدد النساء العاملات في القطاع الخاص الآن ثمانية أضعاف ما كان عليه قبل اثني عشر عامًا، وكان معظم هذا الارتفاع مدفوعًا بالنساء ذوات الشهادات المدرسية العالية. ومع ارتفاع المشاركة في العمل في القطاع الخاص، انخفضت حصة النساء السعوديات العاملات في القطاع العام إلى الثلث، في حين ظلت نسبة الذكور السعوديين العاملين في القطاع العام أعلى من 50%. أدّى مؤشّر البنك الدولي للمرأة وأنشطة الأعمال والقانون، الذي يقيس المساواة بين الجنسين في البلدان في قوانين العمل، إلى ارتفاع مرتبة المملكة العربية السعودية من 29 من أصل 100 في العام 2011 إلى 71 في العام 2023، وهي من بين أكبر المكاسب التي حققتها أي دولة على مدار الخمسين عامًا الماضية.
كما أدّى هذا التحوّل الاقتصادي إلى زيادة مشاركة المرأة بشكلٍ واضحٍ في الحياة العامة، وجعلَ الأُسَر أكثر مرونة ماليًا، وتعزيز إنتاجية الشركات من خلال زيادة قدرتها على الوصول إلى المواهب. ويبدو أنَّ هذه التحوّلات بدورها تؤدي إلى حلقة من ردود الفعل: فكلما احتضن المجتمع السعودي النساء في مكان العمل، زاد تشجيع الحكومة على متابعة الإصلاحات الطموحة. ففي العام 2019، على سبيل المثال، التحق أقل من ربع الأطفال السعوديين برياض الأطفال. وكجُزءٍ من رؤية 2030، حددت الحكومة هدفًا بنسبة 40%، جزئيًا لدعم عودة أمهاتهم إلى العمل.
تعزيز المكاسب
في بحثٍ أجريتُهُ في العام 2022 مع الباحثين الأكاديميين كونراد ميلر ومحمد سيفليك حول الدفع السعودي للإصلاحات منذ “الربيع العربي”، وجدنا أنه بمجرّد أن تبدأ الشركات السعودية توظيفَ نساء، فإنها تميلُ إلى توظيف الكثير منهن. في العامين التاليين لتوظيف أول امرأة، قامت شركة سعودية نموذجية بزيادة حصة النساء في قوتها العاملة إلى حوالي عشرين في المئة. ومع ذلك، فإن اثني عشر عامًا هي فترة قصيرة حتى يتغيّر الاقتصاد والمجتمع بهذه السرعة. في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حدثت زيادات مماثلة في تشغيل النساء على مدى خمسين عامًا. وقد شهد كلا المجتمعَين قلقًا كبيرًا وحتى ردود فعل عنيفة أثناء نضالهما لتطوير الأعراف الاجتماعية والهياكل القانونية لدعم توظيف المرأة خارج وحدة الأسرة.
كانت المرحلة الانتقالية السعودية أيضًا مليئة بالمَطَبّات. وجدت دراسة استقصائية أجراها الاقتصاديون ليوناردو بورشتين وأليساندرا غونزاليس وديفيد ياناجيزاوا-دروت في العام 2020 أنَّ أكثر من 80% من الرجال السعوديين يدعمون عمل المرأة خارج المنزل، لكن هؤلاء الرجال قللوا باستمرار من عدد أقرانهم الذين فعلوا ذلك. ولم تكن لدى شركات القطاع الخاص خبرةٌ كبيرة في إدارة العاملات. أفاد العديد من أصحاب العمل الذين استجابوا لاستطلاع العام 2019 الذي أجريته مع كلوديا إيجر، وتيمو فيتزر، وصالح العديني، أنهم مرتبكون بشأن كيفية الالتزام بالقوانين المتعلقة بالمرأة في مكان العمل واستيعاب تفضيلات الموظفين والموظفات في ما يتعلق بالفصل بين الجنسين. لقد فرض توظيف العاملات تحديات تتجاوز مجرد معرفة كيفية إنشاء وإدارة أماكن عمل مختلطة بين الجنسين: فقد أبلغ أصحاب العمل عن حاجتهم إلى توسيع استراتيجيات التوظيف، وتحديث سياسات الموارد البشرية، وتكييف هياكلهم التنظيمية، بل وحتى تغيير ثقافاتهم المؤسسية. وقد تُفسِّرُ هذه العوائق سبب اختيار حوالي ثلث الشركات السعودية أن يظل جميع موظفيها من الذكور.
هناك العديد من الطرق الرئيسة التي يمكن لواضعي السياسات من خلالها دعم توظيف المرأة. أوّلًا، يجب على القادة السعوديين الاستمرار في التأكيد على أن مشاركة المرأة في سوق العمل أمرٌ بالغ الأهمية. لقد أرسلت رؤية 2030 وغيرها من الإصلاحات الأخيرة إشاراتٍ قوية بأنَّ استثمارات الشركات في توظيف النساء -واستثمارات النساء في حياتهن المهنية- ستؤتي ثمارها. ولكن يجب على القادة السعوديين الاستمرار في الإدلاء بتصريحاتٍ واضحة وتغييراتٍ ملموسة لدعم هذه الأجندة إلى ما بعد رؤية 2030. إنَّ التغييرَ من الأعلى لا يُقَدَّرُ بثمن، ولكن يجب على الإدارات الإقليمية والبلدية أيضًا بذل المزيد من الجهد لتوضيح أنها تدعم التوسع في توظيف المرأة.
تحتاج النساء أيضًا إلى دَعمٍ عمليٍّ أثناء بناء حياتهن المهنية. لا تزال المملكة العربية السعودية تفتقر إلى البنية التحتية اللازمة لدعم النمو السريع في توظيف المرأة. قال العديد من الأمهات السعوديات في استبيانٍ أجريته في العام 2018 مع باتريشيا كورتيس وكلوديا غولدين إنَّ الافتقارَ إلى رعاية الأطفال كان السبب في عدم بحثهن عن وظيفة. تُوفّرُ الحكومة بالفعل التعليمَ العام الشامل بدءًا من سن السادسة، لكن إضافة رياض الأطفال وتوسيع نطاق الوصول إلى رياض الأطفال من شأنه أن يساعد الأمهات على البقاء في قوة العمل بينما يكون أطفالهن صغارًا. هناك حاجة أيضًا إلى معايير تنظيمية أفضل ودعمٍ مالي لرعاية الأطفال الصغار جدًا.
ترغب الشركات السعودية في توظيف النساء، لكنها تشعر بالقلق من أن القيام بذلك –على الأقل في البداية– قد يكون مكلفًا للغاية ومحفوفًا بالمخاطر. يمكن للحكومة السعودية أن تساعد الشركات الخاصة على تعويض التكاليف الأوَّلية من خلال تقديم المنح لتحسين أماكن العمل مثل دورات المياه المخصصة للنساء وأماكن الصلاة، ودعم جهود التوظيف، وتقديم التدريب لموظّفي الموارد البشرية. ومن الممكن أن تعمل الجهات التنظيمية على الحدِّ من عدم اليقين من خلال إعطاء الشركات توجيهاتٍ واضحة ومُتَّسقة حول كيفية الالتزام بالقوانين الجديدة المتعلقة بتوظيف النساء. بعدَ التحوُّلِ الزلزالي في فُرَصِ عملِ المرأة على مدى العقد الماضي، يتمثّلُ التحدّي الآن في التأكّدِ من استمرارِ التقدُّم.
- جينيفر بيك هي أستاذة مشاركة وباحثة في الاقتصاد والدراسات البيئية في كلية سوارثمور، ولاية بنسيلفانيا، الولايات المتحدة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.