المغرب: تَدَفُّقاتُ الهجرةِ غَيرِ النِظامية وتحدّياتُ إدارةِ الحدود
عبد الرفيع زعنون*
أدّى تسارُعُ تدفّقات المُهاجرين غير النظاميين نحو المغرب إلى تكثيفِ عمليّاتِ مُراقبةِ الحدود مع دولِ المَصدَرِ والاستقبال، حيث تصدّت السلطات المغربية في السنوات الخمس الأخيرة لنحو 366 ألف محاولة للهجرة غير النظامية نحو أوروبا، مع تَسجيلِ أرقامٍ قياسية في سنة 2023 باعتراضِ أكثرِ من 75 ألف مهاجر بزيادة 6 في المئة مُقارنةً بسنة 2022.
ويبدو أنَّ هذا المنحى آخذٌ في التصاعُدِ في ظلِّ تجذُّرِ الأصولِ المُغذِّية للهجرة كتفاقُم وَضعياتِ عدم الاستقرار السياسي والأمني في خضمِّ موجةٍ جديدةٍ من الانقلابات والصراعات في دول الساحل والصحراء، وأمامَ الانسدادِ الذي تعرفه مسالك الهجرة نحو أوروبا عبر ليبيا وتونس، الأمرُ الذي جعلَ المغرب وجهةً مُثلى للآلاف من الأشخاص المنحدرين من مناطق النزاع في إفريقيا، وفي بعض الدول العربية كاليمن وسوريا والسودان، ناهيك عن تداعياتِ التغيُّرِ المناخي إذ يتوقّعُ البنك الدولي أن تتسبَّب الكوارث الطبيعية في نزوح حوالي 86 مليون شخص بحلول سنة 2050 في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما سَيُعقِّدُ من مسؤولية المغرب وغيره من الدول الواقعة ضمن طريق الهجرة نحو أوروبا.
فضلًا عن هذه العوامل الموضوعية، هناكَ ثمّةُ تأثيرات جانبية لسعي المغرب نحو تعميق علاقاته مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، التي تَفرُضُ الالتزامَ بالبروتوكولات الخاصة بحرّيةِ التنقّلِ وحقوقِ الإقامة والاستقرار كشرطٍ لقبولِ عضويته في المجموعة. الأمر نفسه ينطبق بالنسبة إلى استحقاقاتِ تنفيذِ اتفاقيةِ منطقةِ التبادُل التجاري القاري الإفريقي التي تنصُّ على ضمانِ الحقِّ في تنقُّلِ الأشخاص بين الدولِ الأعضاء، وغيرها من المحاولات التي ستجعل من المغرب قبلةً لأفواجٍ جديدةٍ من المهاجرين الراغبين في الاستقرارِ فيه، أو محطة توقُّفٍ في انتظارِ توافُرِ فُرَصِ العبور نحو “الإيلدورادو” الأوروبي. وعلى الرُغمِ من الرهان على المبادرة الأطلسية التي أطلقها المغرب في تموز (يوليو) 2023 مع بعضِ دولِ الساحل في تدعيم المسارات القانونية للهجرة، فإنها قد تُحفِّز أكثر تيارات الهجرة النظامية انطلاقًا من السواحل الجنوبية للمملكة نحو جزر الكناري.
يُقابَلُ تنامي تدفّقات المهاجرين بتزايُدِ “أمننة” السياسات الأوروبية للهجرة في خضمِّ مُتغيِّراتٍ جديدة ترخي بظلالها على حقوقِ المهاجرين، كتعمُّقِ الأزمات الاقتصادية، وتنامي المواقف المُعادية للمُهاجرين وصعود اليمين المتطرّف إلى منصّاتِ القرارِ السياسي في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، خصوصًا مع تزايُدِ الاهتمامِ بدورِ المغرب كحارسٍ للحدود الأوروبية من تيارات الهجرة، حيثُ تضمَّنَ الاتفاقُ الأوروبي لإصلاح نظام الهجرة قيودًا أكثر صرامة في تدبير الحدود، كإقامةِ مراكز مُغلَقة بالقرب من الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي بتعاونٍ مع دولِ العبور، كما إنَّ لجوءَ المغرب المُتزايد إلى خبرات الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (frontex) قد يُؤثِّرُ على مصداقيته في تدبير الهجرة كطرفٍ وسيطٍ بين دولِ المَنشَإِ والمَقصَد، وعلى سيادته في إدارة الحدود في ظلِّ تصاعُدِ الأصوات الداعية إلى نشر عناصر الوكالة وآلياتها في السواحل المغربية.
يطرحُ تنامي تدفّقات المهاجرين فُرَصًا ثمينة للمغرب لتعزيز دوره في تدبير الهجرة بين أوروبا وأفريقيا بما يُسهِمُ في تحصينِ مصالحه الجيوسياسية، وفي تعظيم مكاسب الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي بتحسينِ شروطِ اتفاقياتِ التبادُلِ الحرِّ والصيد البحري. لكن في المقابل، تُرتِّبُ الدينامياتُ الجديدة للهجرة غير النظامية تداعياتٍ وخيمة على أمنه الحدودي، فالقبولُ بالحلول الأوروبية سيجعلُ معظمِ الدَعمِ المُخَصَّص لبرامجِ الهجرة يذهبُ إلى تسييج الحدود وتَعلِيَةِ الجدران، في ظلِّ السعي نحو تحميل دول العبور مسؤولية إدارة تدفّقات الهجرة في إطارِ ما أصبحَ يُسمّى بسياسة “تصدير الحدود”، الأمرُ الذي يُهدِّدُ بتغذيةِ بؤر الهجرة في المناطق الحدودية واتساعِ المخيمات الداخلية للمهاجرين وما تُثيره من تأثيراتٍ اجتماعية وحقوقية.
كما إنَّ تنفيذَ اتفاقياتِ إعادةِ القبولِ قد تُحوِّل المغرب من دولة عبور إلى دولة استقرار، من دون أن يكونَ مُهَيَأً أو مُستعدًّا لتحمُّل التكلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذا الخيار. الأمر نفسه ينطبق بالنسبة إلى تدابير العودة والترحيل القسري التي قد تُؤثِّرُ سلبًا في علاقاته الآخذة بالتعقّد مع دول أفريقيا جنوب الصحراء، في ضَوءِ تغيُّرِ الأوضاعِ السياسية وتقلُّبِ خريطةِ التحالفات الاستراتيجية في هذه المنطقة الحيوية في السياسة الخارجية للبلاد.
بشكلٍ عام، يطرحُ التدفُّقُ المَهول للمهاجرين غير النظاميين تحدّياتٍ جِسام على المغرب في تدبير حدوده مع الدول الإفريقية والأوروبية، وهو ما يُحتِّمُ ضرورة الموازنة بين المصالح السياسية والاقتصادية وبين الاعتبارات الإنسانية والحقوقية في ضوء الإطار المعياري الدولي لتدبير التنقّلات البشرية، وعلى رأسها الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظّمة والنظامية الذي تمَّ اعتماده في مراكش في أواخر سنة 2018، وخصوصًا في ما يتعلق باحترامِ حقوقِ الإنسان على الحدود، وحَظرِ الطردِ الجماعي والإعادةِ القسرية للمهاجرين، وضمانِ عودةٍ آمنةٍ وكريمةٍ لهم.
- عبد الرفيع زعنون هو باحث في القانون العام والعلوم السياسية وأستاذ زائر في كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بتطوان، جامعة عبد الملك السعدي، المغرب.