إسرائيل تُنهي الحَربَ وتُواصِلُ القتال: جَدَلُ الساسة والعَسكَر
محمّد قوّاص*
حلّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الإثنين، مجلس الحرب. كانَ لاستقالةِ بني غانتس وغادي أيزنكوت من عضوية المجلس تأثيرٌ مباشرٌ على قرارِ تخلّي نتنياهو عن هيئةٍ غير إلزامية يرتبطُ تشكيلها وحلّها بقرارِ رئيس الحكومة. وكانَ لطلبِ وزيرَي التطرّف إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش الانضمام إلى مجلس الحرب مكان العضوَين المُستقيلَيْن تأثيرٌ آخر للتخلّي عن المجلس الفرع والعودة إلى الحكومة الأصل. غير أنَّ في رمزيةِ التخلّصِ من مجلسِ الحرب ما يكشُفُ أعراضَ شروعِ إسرائيل في التخلّي عن الحربِ نفسها.
يَعودُ نتنياهو نفسه إلى قواعده، إلى حيث ينعَمُ في حكومته اليمينيةِ النَقاء والمُتطرّفةِ العبق. ويكادُ رئيس الحكومة الإسرائيلي يتخلّصُ بذلك من عروض يائير لابيد، زعيم المعارضة، بالتخلّص من ثُنائي التطرّف اللذين يتناوَبان على التهديد بالانسحاب من الحكومة، مُقابل توفيره وصحبه، انخراطًا حكوميًا إلى جانب نتنياهو، يؤمّن ديمومة حكومته وشرعيتها.
تخلّصَ نتنياهو من مجلس الحرب، واحتفظَ حتى إشعارٍ آخرٍ بوحدةِ حكومته وقاعدتها الإيديولوجية اليمينية. بنى زعيم الليكود مسيرته المهنية بالنهل من زادِ اليمين، مُنافِسًا يسار إسرائيل وزعامة حزب العمل حتى بالتحريضِ على إسحق رابين، حتى قيلَ إنه وَفّرَ بيئة حاضنة لاغتياله. وبالتالي، الرجلُ غير مُهتَمٍّ برَهنِ بقاءِ حكومته بعَونٍ من وسط ويسار، وبدعمٍ مشروطٍ من أمثال لابيد وغانتس وأيزنكوت وأمثالهم. ولم تَكُن طروحات وزراء التطرّف والشطط في عنصريتها تضيرُ نتنياهو يومًا. فإضافةً إلى تحصّنه خلف واجهتهما لتسويقِ يمينيته التقليدية، فإنهما يُظهرانهُ حَمَلًا وَديعًا ورجلَ دولةٍ يعرفُ كيفَ يقودُ البلد في الأزمات المصيرية الكبرى.
اندثارُ مجلسِ الحرب يعني أيضًا أنَّ الحربَ انتهت بالنسبة إلى إسرائيل، حتى لو أنها لم تنتهِ في غزّة، وقد يبقى الغزّيون زمنًا عصيبًا داخلها قبل صمت آلات القتل نهائيًا. وما تعيشه إسرائيل حاليًا هو مخاضُ الخروج من “حرب الجنوب”، في وقتٍ يشتدّ الحديثُ عن “حربٍ في الشمال”. وبغَضِّ النظرِ عن صدقيةِ وجدّية ربط الدعوات في إسرائيل إلى وقف حرب غزّة لمباشرة حرب لبنان، فإنَّ في الأمر أعراضَ تحوّلٍ مُرتبكٍ وركيكٍ من منطقِ “حرب الإبادة” إلى منطقٍ يُسَوِّقُ لنظريةِ انتهاءِ الحرب من دونِ انتهاءِ القتال.
تُفَكِّرُ إسرائيل في مخرجٍ من حربِ غزّة يُشبِهُ تلك الحرب التي تشنّها إسرائيل منذ ما قبل “طوفان الأقصى” في الضفة الغربية.
يَسهلُ الاستنتاجُ أنَّ الحربَ في غزّة باتت من دونِ حاضنةٍ دولية، نشطت فيها التظاهرات المُعادية وحركة المحاكم الدولية. في المقابل، تمرّ الحرب في الضفة الغربية، التي استعرَت وباتت إيقاعاتها أسرع وأكثر وَجَعًا منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، في ظلِّ صمتٍ دوليٍّ مُريبٍ يكادُ لا يرى القتلَ شبه اليومي في جنين وطولكرم ونابلس ومدن عديدة، ناهيكَ عن هجماتِ المستوطنين. وفي نموذجِ العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية ما يُفَسّرُ اهتداء الفكر العسكري الإسرائيلي إلى مُعادلةِ وَقفِ الحرب في غزّة ومواصلة القتال، وهنا يُدلي الجيشُ الإسرائيلي بدَلوِه.
تلقّى الجيشُ صفعةَ القرن في “7 تشرين الأول/أكتوبر” الماضي، وكانَ يحتاجُ إلى ردٍّ انتقاميٍّ مُزَلزِلٍ يُنقِذُ سمعة “الجيش الذي لا يُقهَر”. فدفعَ باتجاهِ المضي بأعلى القدرات النارية وأكثرها فتكًا. ولم يكن لحكومةِ إسرائيل، ولنتنياهو بالذات، المضي بعيدًا في الحرب لولا دفع الجيش بهذا الاتجاه. ولم يَصدُر عن حكومة إسرائيل ومجلس حربها (المُنحَلّ) أيُّ قرارٍ سياسي لا يأخذُ في الاعتبار، إلى درجةِ الطاعةِ والانصياع، رأيَ الجيشِ وحساباته. غيرَ أنَّ شيئًا تغيّرَ في الأسابيع الماضية، وظهر نافرًا في الساعات الأخيرة، بحيثُ بدا أنَّ الجيشَ يُريدُ إنهاءَ هذه الحرب التي لم تَعُد مُفيدةً وناجعةً وقادرةً على تحقيقِ أهدافها، هذا عدا ما سبّبتهُ وستسبّبهُ من تشويهٍ لسمعتهِ ومُلاحقاتٍ مُحتَملة من قبل القضاء الدولي لجنوده وضباطه.
على نحوٍ لافت، أقرّ دانيال هاغاري، المُتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي السبت الماضي، بأنَّ إسرائيل لن تنجحَ في تحريرِ كلِّ الرهائن المُحتَجَزين في غزّة. وقال: “على الرُغمِ من الإنجازِ الكبير في تحرير 4 من الرهائن (في 8 حزيران/ يونيو الجاري)، يجب أن نقول بصراحة: لن يكونَ في مقدورنا استعادة كل المختطفين في غزة بعملياتٍ عسكرية”.
كانَ هذا الإعلانُ رسالةً من الجيش للساسة، مَفادُها أنَّ الأمرَ في أيديكم وليس في أيدينا. أرفَقَ الجيشُ الرسالةَ في اليومِ التالي، الأحد، بقرارٍ أعلنَ فيه أنه سيلتزمُ “هدنة تكتيكية في الأنشطة العسكرية” يوميًا في قسمٍ من جنوبِ قطاع غزة خلال ساعاتٍ مُحدَّدة من النهار، للسماحِ بإدخالِ المساعدات الإنسانية. وأوضحَ الجيشُ في بيانهِ أنَّ “هدنةً تكتيكية محلّية في الأنشطة العسكرية لأهدافٍ إنسانية ستُطَبّقُ من الساعة 8:00 إلى الساعة 19:00 كل يوم وحتّى إشعارٍ آخر”، إنطلاقًا من مَعبرِ كرم أبو سالم وحتى طريق صلاح الدين ومن ثمَّ شمالًا. فقامت الدُنيا ولم تَقعُد.
أثارَ موقفُ الجيش لغطًا تسلّى به الساسة، حتى أنَّ نتنياهو الذي عَبّرَ عن غضبٍ وتَبَرُّمٍ من قرارِ الجيش، أطلقَ اكتشافًا أنَّ في إسرائيل “دولة لها جيش وليست جيشًا له دولة”. وبغَضِّ النظر عن صحّةِ هذه النظرية التي لها مَن يُفنّدها ويَرفُضها في طبيعةِ تَشَكُّلِ إسرائيل تاريخيًا وهياكل سلطاتها، وبغضِّ النظرِ عمّا أوضحه الجيش لاحقًا من أنَّ “لا وَقفَ للأعمالِ القتالية في جنوب قطاع غزة”، وأنَّ العملياتَ العسكرية “في رفح مستمرّة”، فإنَّ إسرائيل لا يُمكنها أن تَستَمرَّ في حربٍ لم تَعُد تُقنِع جيشها، وأنَّ حكومةَ نتنياهو وثُنائي التطرّف مضطرّان إلى تَمَوضُعٍ جديد.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).