وفاة بيتهوفن: خُصلة الشَعر كما كشفها الحمض النووي!

يقود الأُوركسترا ولا يسمع أَداءَها

هنري زغيب*

بعد 200 سنة على وفاته، كشَف فحص الحمض النووي لـخصلة من شعره مخبريًا مفاجأَةً كبرى، لم تكشف حقيقة علمية لكنها فتحت آفاقًا جديدة من التساؤُلات حول السبب الحقيقي وراء الصمم الذي أَصابه وكدَّر عليه حياته في الجزء الأَخير من سيرته ومسيرته. 

ما سبب الوفاة؟

عاصفةً جدًّا كانت ليلة ذاك السادس والعشرين من آذار/مارس. وفيما راحت تشتعل العاصفة في الخارج، كانت شمعة تنطفئ في الداخل معلنةً وفاة العبقري الأَلماني لودفيك ڤان بيتهوڤن (1770-1827)، بعد عذاب طويل من مرض قاسٍ أَقعده عن العمل منذ فترة الميلاد السابقة (1826)، معانيًا من  اليَرَقَان (ازدياد الصُفْرة في خلايا الدم)، وشلَل أَطرافه، وضُمُور بطنه، وضيق التنفُّس.

وعند فتْح أَوراقه الخاصة بعد الوفاة، ظهرت ورقة كان بيتهوڤن كتبها قبل وفاته بربع قرن، بشكل وصية لأَشقائه يطلب منهم فيها أَن يكشفوا تفاصيل عن وضعه الصحي الذي كان يعرفه جمهوره، وهو أَنه أُصيب بالصمم وهو في نحو الأربعين من شبابه. لذا كان يريد أَن يعرف جمهوره علَّته لا من محيطه بل من التقارير الطبية الموثَّقَة.

وهو عاش نحو عقدين بعد تشخيص مرضه طبيًا، وها بعد نحو 200 سنة من وفاته، يكشف فريق باحثين ما كان يتمناه ذاك العبقري في وصيته، استنادًا إِلى فحص خصلة من شعره بالحمض النووي.

خُصلة الشعر التي هي السؤَال اللُغز

خصلة الشعر اللغز

عند إِتمام ذلك الكشْف لدى معهد ماكس پلانك للأَنتروپولوجيا التطوُّرية في لايبزيغ (تأَسَّس في أَلمانيا سنة 1997 لأَبحاث الجنس البشري)، صرَّح رئيس الفريق البحثي والاختصاصي بعلْم الحمض النووي العالِم البيوكيميائي يوهانس كراوز أَن أَهم هدف للفريق كان تشخيص المشاكل الصحية على حياة بيتهوڤن، أَبرزها فقدانُه حاسة السمع تدريجيًّا منذ مطالع العشرينات من عمره حتى أَصبح أَصمَّ كلِّيًّا سنة 1818.

حتى ظهور ذاك الكشف، لم يكن معروفًا بعدُ سببُ ذاك الصمم. وحتى طبيبه الخاص يوهان آدم شميدت لم يدرك ذاك السبب. وما كان بدأَ لديه من طنين في الأُذن في مطلع عشريناته فأَخذ تدريجيًّا يُفْقِدُهُ سماع النوتات الحادَّة في مؤَلفاته، ما جعلَه متوترًا في المراحل الأَخيرة من حياته، وهذا أَقسى ما يواجهه كمؤَلف موسيقي. لذا كتب يومًا في رسالة إِلى أَشقائه أَنه يائس إِلى حد تفكيره بالانتحار.

غير أَن الصمم لم يكن مشكلته الصحية الوحيدة في أَواخر حياته. فهو منذ كان في الثانية والعشرين، بدأَ يشعر بآلام حادة في بطنه وحالات إِسهال متكررة. وما إِلَّا قبل ست سنوات من وفاته حتى ظهرَت لديه عوارض التليُّف في الكبد، ما يرجَّح أَنها كانت أَحد أَسباب إِصابته بالصمَم تدريحيًّا ثم كليًّا وهو في السادسة والخمسين.

يكتب موسيقى لن يسمعَها

تكهُّنات أُخرى

سنة 2007 أَظهر بحث جنائي على خصلة من شعره نوعًا من التسمُّم سبَّب وفاته وما سبقها من اضطرابات مؤْلمة في الأَشهر الأَخيرة من حياته. وهذه خلاصةٌ مفاجئة نظرًا لِما كان سائدًا أَنَّ شُربَه من أَوعية رصاصية وتناولَه أَدوية متعددة فيها مواد رصاصية هي التي أَدت إِلى وفاته.

من هنا أَن دراسة حديثة صدرَت في آذار/مارس الماضي (2023) تنقُضُ تلك النظرية، وتُظهر أَن خصلة الشعر ليست لبيتهوڤن بل لامرأَة مجهولة. وإِن كانت لبيتهوڤن فهي تثبت أَن سبب وفاته هو التهابُ الكبد بسبب إِفراطه في الشرب وفي كل ما يؤْذي الكبد. ويضيف العالِم كراوز: “لم نكتشف سببًا لصمَمه أَو مشاكل أَمعائه”.

صديقه البيانو يخونه فلا يوصل نوتاته إِليه

وُلِدَ من علاقة غير شرعية (؟!)

من جديد، يجد الباحثون والعلماء أَن العلْم يقف عاجزًا عن تبيان أُمور مجهولة كثيرة لم تَظهر بعدُ في سيرة بيتهوڤن ومسيرته. كما مثلًا: من أَين التَقَط جرثومة التهاب الكبد؟ أَو من أَين جاءَت خصلة الشعر تلك بعد نحو قرنين، ولِماذا ظهرت الآن لا قبل؟ وما كان السبب في آلام جهازه الهضمي وفي فقدانه السمع؟

إِذا كان فريق الأَبحاث الجينية استند إِلى رغبة بيتهوڤن في أَن يعرف العالَم عن صمَمه، ثمة بعدُ مفاجأَة في فحص جيناته. فالتحقُّق من فحص خصلة الشعر ومقارنتها بفحص نماذج من سلالة بيتهوڤن الأَبوية المعاصرة اليوم، يُظهر ملامح من علاقات جنسية خارج الزواج لدى المتحدّرين من أُسرة بيتهوڤن، ما يطرح أَسئلة مثيرة عن نسَب ولادته. وهذه الفرضية الأَخيرة، يصفها العالِم الأنتروپولوجي تريستان بيغ (من جامعة كمبردج) بأَن فيها، صعودًا إِلى أَسلاف أَبيه، لبْسًا بين ولادة جده الأَعلى هندريك ڤان بيتهوڤن في كامپنهوت (بلجيكا) نحو سنة 1572 وولادة لودڤيك ڤان بيتهوفن بعد سبعة أَجيال سنة 1770 في بون (أَلمانيا). وهذا قد يوضح ما كان كتبه الموسيقار العبقري في رسالته تلك إِلى أَشقائه.

تراه كان يشُكُّ في أَنه ثمرة علاقة غير شرعية خارج الزواج؟

في أَيِّ حال، ذهبَ معه هذا اللغزُ لحظة أَغمض عينيه إِلى الأَبد في تلك الليلة العاصفة من آذار/مارس سنة 1827.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى