سعد الحريري: ما لَهُ وما عَلَيه (5): خطواتٌ عاثِرة في مَسيرةٍ حائرة
سليمان الفرزلي*
إذا جازَ اختصارُ وَصف المسيرة السياسية لسعد الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، حتى الآن، بكلمتَين، فإنه يمكنُ القول بأنها كانت “مسيرةً حائرة”. وبين مرحلةٍ ومرحلة، حيث كان يرى ضرورةَ أن يبتعدَ عن رئاسة الحكومة، بدا كأنه بحاجة دائمة إلى مُرَشَّحٍ بديلٍ منه يُدفئُ له المقعد إلى حين تسمح الظروف بعودته إليه. والمُرَشَّحان اللذان قاما بمهمة “تدفئة مقعد الحريري” في السراي، فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي، أثارا جدلًا حين استطابَ لهما القعود على ذلك الكرسي الدافئ، فاشتطَّ بهما المقام، إلى درجةِ تجاوزِ الحدود الدستورية إلى درجةٍ مُنفِّرة.
فؤاد السنيورة قضى سنواته في السراي يحكُمُ بدون أيِّ ميزانية للدولة، وبدون أيِّ قَطعِ حساب، مما جعل الميزانيات الهزيلة التي أُقِرَّت بعده، فضلًا عن مخالفتها للدستور، مُجَرَّد أرقام عشوائية، فكانت أقرب الى “ميزانية دِكَّنجِيّة” منها إلى ميزانية دولة. أما نجيب ميقاتي فإنه يَحكَمُ الآن بميزانيةٍ “وَهمية” لدولةٍ مُفلِسة، بل تُعاني من إفلاسٍ مُزمِن، جرت تغطيته بتلبيس الطرابيش.
فقد اختارَ سعد الحريري، فور اغتيال والده، عدم الاقتراب من رئاسة الحكومة، لعدم خبرته آنذاك بالعمل السياسي، مُفَضّلًا أن يتعلّمَ السباحة في بحر السياسة اللبنانية المُتلاطِم عن بُعد، بمراقبةِ صيّادين بملابس سبَّاحين، فكانت تلك أول خطوة عاثرة للحريري، قبل أن يُدرِكَ أنَّ البحرَ هو المُعلّمُ الأكبر للسباحة، وبالتالي كان عليه أن يغطسَ فيه من البداية.
الصيّادان السنيورة والميقاتي، نسيا سعد الحريري، وظنّا أنهما باتا يملكان البحر، فراحا يُبلِّطانه. حَكَمَا بدون مسؤولية، لأنَّ المسؤولية في أذهان اللبنانيين يتحمّلها الحريري. وهنا كانت الطامة الكبرى، عندما بدأ التلاعب والتزوير في قضيَّة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وتسليم الملف إلى قوى أجنبية لها مصالح كبرى في العالمَين العربي والإسلامي، وهي مصالح كانت، وما زالت، تقتضي إثارة صراع سنِّيٍّ–شيعي في لبنان والمنطقة. وكادت هذه الفتنة تقع في لبنان يوم السابع من أيار (مايو) 2008 عندما حاولت حكومة السنيورة البتراء، (لعدم وجود أعضاء فيها من الطائفة الشيعية)، وضع اليد على الشبكة الهاتفية الأرضية الخاصة التي أقامها “حزب الله” لحماية المقاومة من التنصّت الخارجي على اتصالاته بين كوادره وقياداته.
ومن حُسنِ الحظ أنَّ شرارةَ تلك المحاولة، التي جعلت الحرب الأهلية في لبنان على قابِ قوسَين أو أدنى، أُطفِئَت في الحال، بفعل عدم رغبة سعد الحريري في مثل هذه الفتنة، وبعمل شبه عسكري حاسم من قبل “حزب الله” وبعض حلفائه (وما زال يُعيَّر به إلى اليوم)، ثم استُكْمِلَ ذلك على الفور بعمل سياسي وديبلوماسي، نتج عنه اتفاق الدوحة برعاية دولة قطر، حيث تم الاتفاق على انتخاب العماد ميشال سليمان، قائد الجيش آنذاك، رئيسًا للجمهورية.
تلك المرحلة الابتدائية في مسيرة سعد الحريري السياسية، كانت مليئة بالخطوات العاثرة، وبعضها استُدْرِجَ إليه، مع أنها مُكتَظَّة بالمخالفات الدستورية والميثاقية أقدمت عليها الحكومةُ المحسوبةُ عليه، وكانت أيضًا مشحونةً بالتطرّف الفئوي من فريق 14 آذار، وهو الفريق الذي لم يكن سعد الحريري قادرًا أن يُمَيِّزَ نفسه عنه، كما جرى تاليًا، لأنَّ جرحه في ذلك الوقت كان ما زال حاميًا. وقد أساء فريق 14 آذار للحريري بتأييده الغوغائي له، أكثر مما أساء إليه خصومه في معارضتهم لفريقه، بما في ذلك صدامات السابع من أيار (مايو) 2008.
في ذلك الوقت كان العداءُ لسوريا في رأس نشاط الفريق المحسوب على سعد الحريري، بل إنَّ أولَ جهةٍ وجَّهَ إليها ذاك الفريق التهمة باغتيال رفيق الحريري كانت سوريا. لكن الحريري ما لبث أن تراجعَ عن هذا الموقف، ليس فقط لأنه أدركَ أنَ تلك “الشطحة” كانت خطوة عاثرة، بل لأنَّ الشراكة السورية–السعودية التي مكَّنت المغفور له والده من الحكم المتواصل في لبنان، كانت ما زالت قائمة، ولو بحدّها الأدنى، قياسًا على ذروتها خلال وبعد حرب الخليج الأولى (حرب الكويت) بين الرئيس السوري حافظ الأسد والعاهل السعودي فهد بن عبد العزيز، وبقيت قائمة بقوة الاستمرار خلال مرحلة حكم الملك عبد الله، سواء بالوكالة في عهد فهد، أو بالأصالة يوم اعتلى العرش بعد وفاة شقيقه الملك السابق.
بل إنَّ سعد الحريري، على ذلك المفترق السوري، بدا وكأنه اكتشف مكمن قوَّة موقف والده النابعة من الشراكة السورية–السعودية في لبنان. ولذلك استجابَ في أول حكومة ترأَّسها بعد اغتيال والده بسنوات عديدة، لمُتطلّبات تلك الشراكة بأن قام بزيارةٍ رسمية إلى دمشق حيث استقبله الرئيس بشار الأسد استقبالًا حافلًا، وأرفق تلك الزيارة بإعلان منشور في صحيفةٍ سعودية تراجعَ فيه عن اتهام سوريا باغتيال والده. وكانت تلك أول مسافة ابتعد بها سعد الحريري مسافة ملحوظة عن حلفائه السابقين في 14 آذار، أو هو ربما استذكر كلمة عمّته السيدة بهيَّة الحريري، يوم مغادرة الجيش السوري لبنان أواخر شهر نيسان (أبريل) 2005، ومفادها حرفيًا: “لا نقول وداعًا سوريا، بل نقول إلى اللقاء”.
وفي هذه العبارة قولان: قولٌ فسَّرها على أنها تجديدٌ للعهد مع النظام القائم في دمشق، كما كان قائمًا خلال حكم الرئيس حافظ الأسد، وقولٌ فسَّرها على أنها إشارةٌ إلى نظامٍ بديلٍ آتٍ إلى سوريا قريبًا لكن لم تأتِ ساعته بعد.
زيارة سعد الحريري إلى دمشق بضيافة بشار الأسد، تُنبئ بالتفسير الأول، أما الخطوة العاثرة التي تراجع فيها إلى مواقفه السابقة، فتُنبئ بالتفسير الثاني، حيث عمل سعد الحريري بموجبه، فخسر الرهان.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com