إيران واليمن: خَدَماتُ واشنطن وحَرَدُ بكين

محمّد قوّاص*

تُدرِكُ الولايات المتحدة أنها لن تستطيعَ أن تَردَعَ جماعة الحوثي عن تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر من خلال الضغوط والتدابير التي اتّخذتها حتى الآن من أجل تحقيق ذلك. ويُدرِكُ العالم أنَّ واشنطن لا تستخدم قدراتها الحقيقية، وخصوصًا العسكرية، من أجلِ فَرضِ إرادة “تحرير” مضيق باب المندب وممرّات الملاحة في المنطقة.

وفق هذه المعادلة يتحرّك الحوثيون داخل هامش مناورة رَحب يُوَفّرُ لهم وسائل الاستمرار في التأثير المعطِّل للملاحة وانسياب سلاسل التوريد. فلا قرارَ أميركيًا-بريطانيًا لـ”اجتثاثهم”، ولا أجواءَ دولية توحي بفتح ملف اليمن برمّته وقلب موازين القوى. وفوق ذلك تأتي العقوبات التي فرضتها واشنطن ولندن على بعض قادة الحوثيين لتُعَزّز طمأنينة في صفوفهم بشأن المستوى المحدود لأدواتِ الردع المُتاحة.

لا يملكُ قادة جماعة الحوثي أرصدة مالية في المصارف الأميركية وصناديق المملكة المتحدة ولا خطط لديهم لزيارة واشنطن والسياحة في لندن. وإذا ما تأمّلت الجماعة عقوبات الغرب ضد إيران قديمًا وروسيا حديثًا، أمكن لها ملاحظة فشل تلك الأدوات وركاكتها.

استنتجت الجماعة في اليمن، وإيران من ورائها، أنَّ ربطَ العبث بأمن البحر الأحمر بالحرب في غزّة كان له أثرٌ لدى دوائر إقليمية ودولية في الإحجام عن الانضمام إلى تحالف “حارس الازدهار” الذي أنشأته الولايات المتحدة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. كما إنَّ قيادةَ واشنطن للتحالف كان سببًا إضافيًا للرفض والتحفّظ.

لم تُشارِك السعودية والإمارات ومصر ودول أخرى مُطِلّة على البحر الأحمر في التحالف ولم تنضمّ دولٌ غربية أيضًا وارتجل الاتحاد الأوروبي مجموعته البحرية الخاصة.

والأرجحُ أنَّ المنطقةَ لا تثق بمقاربة واشنطن ولندن الجديدة في اليمن وهما المسؤولتان عن إفشالِ رؤية المنطقة في مكافحة الظاهرة الحوثية خلال السنوات الأخيرة. بالمقابل فإنَّ بلدان في أوروبا رفضت الالتحاق بـ”التحالف” إما لأنه تُشَكّلُ في سياق حرب غزّة (اسبانيا)، وإما لأنها لا تريد وضع قواتها البحرية تحت إمرة جنرالات واشنطن (فرنسا وإيطاليا).

استنتجت جماعة الحوثي أيضًا أنَّ الولايات المتحدة دخلت في مزاجِ الانتخابات الرئاسية، وأنَّ تورّطَ واشنطن في حربٍ كبرى جديدة في الشرق الأوسط ليس حجّة انتخابية يمكن للرئيس الأميركي جو بايدن الاستثمار بها داخل حملته للتجديد لنفسه داخل البيت الأبيض.

بدا التحرّك الأميركي مرتجلًا يدفع ثمن مواقف الإدارات في واشنطن من المسألة اليمنية. وبدا أيضا أنَّ إدارة بايدن بالذات تدفع ثمن عبثها في التعامل مع “الحالة” اليمنية حين قرر الرئيس الأميركي في 21 شباط (فبراير) 2021، في أول القرارات التي اتخذها حين تَبَوَّأ منصبه، إزالة جماعة الحوثي عن لوائح الإرهاب. وقد عبّر القرار حينها عن عجلةٍ صبيانية كيدية ضد سلفه دونالد ترامب وضد السعودية والتحالف العربي آنذاك.

أعادت هذه الإدارة في 18 كانون الثاني (يناير) الجاري تصنيفَ الإرهابيين منظمة إرهابية وفرضت قبل أيام على بعض قادتهم عقوبات وراحت تدكّ مواقعهم وقواعدهم بالصواريخ. يُعبّرُ الأمر عن أكبر فشل ترتكبه الولايات المتحدة في تقييم وتقدير أزمة جيوستراتيجية كبرى كالأزمة اليمنية وفك شيفرتها. ووسط هذه الحقيقة تتأمّل بلدان البحر الأحمر الحدث بشكلٍ مُحايد غير مُستَعِدّة للانخراط في ورشةٍ أميركية لا خطةّ لها ولا أفق في حوافزها يقارب المشكلة اليمنية في أبعادها الحقيقية السياسية والجيوسياسية.

ما يصدرُ عن المنابر الأميركية والبريطانية يفيد أنَّ ضربات البلدين العسكرية هدفها “إضعاف” قدرة الميليشيا اليمنية على التعرّض للسفن التجارية المُبحِرة في المياه المقابلة لليمن. وفي استخدام كلمة “إضعاف” إما إبلاغٌ للحوثيين والإيرانيين من خلفهم أن لا نوايا ل”القضاء” على قدرات الجماعة ولا خطط َلحربٍ كبرى تطيح بقدرة الحوثيين على الإطلالة على شواطئ البحر الأحمر.

توحي تلك الإشارات بالقبول بالسياق الذي يُلَوِّح به الحوثيون. فالميليشيا تتحرّى اعترافًا دوليًا، أميركيًا بالأخص، بواقعها في اليمن وبالحيّز الرحب الذي تتوق إليه داخل هذا البلد. وإذا ما سبق لضغوطٍ أميركية-بريطانية أن “أنقذت” الحوثيين من خطّةٍ للتحالف العربي والشرعية اليمنية بتحرير الحديدة وفرضت على فرقاء الصراع اتفاق استوكهولم في العام 2018، فإنَّ الجماعة (وإيران من خلفها) تطمح إلى إقرار العالم بأرجحيتها داخل موازين القوى اليمنية.

صَحيحٌ أن لا شيءَ في واشنطن ولندن يوحي بالذهاب إلى إبرامِ صفقة مع طهران لصالحِ الحوثيين في اليمن، لكن الولايات المتحدة تُدرِكُ أنَّ الخيارَ العسكري لن يكونَ مُجديًا إلى درجة أنها تستدعي تدخّل الصين للضغط والتوسّط. وإذا ما صحّت الأنباء عن أنَّ بكين فعلت شيئًا من هذا القبيل ولمّحت إلى تبرّمٍ لدى طهران من سلوك ذراعها في اليمن، فإنَّ الأمرَ يُعبّرُ عن مشهد سريالي مُعقّد يخلط الارتجال بالعبث بتقاطع الخصمين الكبيرين، الصين وأميركا، في لحظة نادرة.

لن يضيرَ طهران عتب “حليفها” الصيني الذي يستبطنُ اعترافًا بقدرات إيران على الإمساك بمفاصل دولية وممرات الملاحة في الشرق الأوسط ومنها مضيق باب المندب وتأثيراته على قناة السويس.

ولن يضيرها أن تتدلّل مستمرّة في الزعم أنَّ قرارَ الحوثي سيّدٌ مستقل عن قرار طهران وأن توحي للسائلين بأنها “ستسعى” وإن كانت تخريجة ذلك وفق “حجّة غزّة” تحتاج إلى اجتهادات وفتاوى من السهّل أن توفّرها قريحة الحاكم في طهران.

وقد تكون ظروف المأزق هي التي استدعت تسريبًا إلى “وول ستريت جورنال” عن معلومات بشأن تحذيراتٍ سرّية مُسبقة كانت الولايات المتحدة قد أرسلتها إلى إيران بشأن هجوم كرمان، ذلك أن طهران تحتاج من أجل النزول (وإنزال الحوثيين معها) عن الشجرة التفاخر بخدمات واشنطن والإنصات لحَرَدِ بكين.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى