الإبادةُ الجَماعِيَّةُ في غزّة كفُرصَة: ما يُريدُهُ بن غفير في الضفة الغربية

في الوقت الحالي، تستمرُّ حربُ الإبادةِ الجماعية في غزّة والضفة الغربية في خلقِ الفُرَص للصهيونية الدينية لاكتسابِ أتباعٍ جُدد، وإرساءِ جذورٍ أعمق داخل المؤسّسة السياسية الإسرائيلية.

إعتداءات المستوطنين اليهود على الفلسطينيين تحدث تحت أعين الجيش الإسرائيلي.

رمزي بارود*

لو أنَّ ما يَحدُث الآن في الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة حَدَثَ قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، لكانت أنظارُنا مُنصَبَّةً بالكامل على تلك المنطقة في فلسطين. مع ذلك، فإنَّ الإبادة الجماعية الإسرائيلية المُستَمِرّة في غزّة قد قلّلت من أهمية الأحداث الجارية في الضفة الغربية التي أصبحت الآن مسرحًا لأعنفِ حملةٍ للقوات الإسرائيلية منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2005).

حتى وقت كتابة هذا المقال، منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، قُتل أكثر من 360 فلسطينيًا في الضفة الغربية، فيما أصيب الآلاف واعتُقِلَ آلافٌ آخرون. وتتجاوز هذه الأرقام، بفارقٍ كبير، إجمالي عدد الفلسطينيين الذين قُتِلوا في العام 2022، والذي صنّفته الأمم المتحدة بالفعل باعتباره العام الأكثر عنفًا على الإطلاق منذ العام 2005.

لكن كيفَ لنا أن نفهمَ المنطق وراء العنف الإسرائيلي في الضفة الغربية، مع الأخذ في الاعتبار أنها تخضَعُ أصلًا للاحتلال العسكري الإسرائيلي والسيطرة “الأمنية” المشتركة للقوات الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية؟

علاوةً على ذلك، إذا كان الإسرائيليون صادقين في ادِّعائهم بأنَّ حربهم في غزّة ليست إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، بل هي حربٌ على “حماس”، فلماذا يُهاجِمون الضفة الغربية بهذه الشراسة، ويقتلون الناس من جميع الخلفيات السياسية والإيديولوجية المختلفة بمن فيهم العديد من المدنيين، بما في ذلك الأطفال أيضًا؟

الجواب يكمن في القوة السياسية المُتنامية للمستوطنين اليهود.

تاريخيًا، هناكَ نوعان من العنف الإسرائيلي الذي يُمارَسُ بشكلٍ روتيني ضد الفلسطينيين: العنفُ الذي تمارسه القوات الإسرائيلية، والعنفُ الذي يمارسه المستوطنون اليهود غير الشرعيين. ويُدرِكُ الفلسطينيون تمامًا أنَّ الظاهرتَين مُرتبطتان ارتباطًا جوهريًا. وكثيرًا ما يهاجم المستوطنون الصهاينة الفلسطينيين تحت حماية القوات الإسرائيلية، وكثيرًا ما تشنُّ الأخيرة غاراتٍ عنيفة على الفلسطينيين لصالح المُستَوطنين غير الشرعيين.

لكن في السنوات الأخيرة، بدأت العلاقة بين هذين الكيانين العنيفين تتغيَّر، وذلك بفضل صعود اليمين المتطرّف في إسرائيل، والذي يقع معظمه داخل المستوطنات غير القانونية، ومؤيديه داخل إسرائيل.

لذلك، لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أنَّ الوزيرين اليمينيين المتطرفين في حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، هما أنفسهما مستوطنان.

بمجرّد تَوَلّي بن غفير منصب وزير الأمن القومي، بدأ الترويج لفكرة إنشاء الحرس الوطني. وبعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، تمكّنَ، بدعمٍ مباشر من حكومة نتنياهو، من إنشاء ما يُسمى بفرق الأمن المدنية (بلغت الآن أكثر من 600 فرقة). وقد وصف بعض المسؤولين الإسرائيليين، مثل يائير لابيد، جيش بن غفير الجديد بأنه “ميليشيا خاصة”. وهم على حق.

وعلى الرغم من أن بن غفير يصرُّ على أنَّ الحربَ على غزّة يجب أن تَستَمِرّ، فإنَّ هدفه الفعلي من استمرارها -بصرف النظر عن التطهير العرقي لسكان غزّة- هو استغلالُ هذه الفرصة النادرة لتحقيق جميع رغبات المتطرّفين السياسيين في إسرائيل، دفعةً واحدة.

لنتذكّر أنَّ بن غفير جاء إلى السلطة بناءً على وعودٍ بضمِّ الضفة الغربية، وتوسيع المستوطنات، والسيطرة على الأماكن المقدسة الفلسطينية في القدس الشرقية، من بين أفكار متطرفة أخرى. وكان المسجد الأقصى هدفًا رئيسًا له وأتباعه، الذين يعتقدون أنه فقط من خلال بناء الهيكل الثالث على أنقاض ثالث أقدس صرحٍ في الإسلام، ستتمكّن إسرائيل من استعادة السيطرة الكاملة على الأرض المقدسة.

كان من المُمكن رفض لغة بن غفير السياسية الغريبة باعتبارها تطرّفًا لسياسي هامشي. لكن هذا لم يكن. في الوقت الحالي، يمكن القول إن بن غفير هو أقوى سياسي في إسرائيل، بسبب قدرته، باستخدام ستة مقاعد في الكنيست، على تشكيل ائتلاف نتنياهو أو كسره.

وبينما يتصرّف نتنياهو إلى حدٍّ كبير نتيجةً لليأس، فإن وزير دفاعه يوآف غالانت يكافح من أجل استعادة سمعة جيشه المُمَزَّقة. ويسير آخرون، مثل وزير مجلس الحرب، بيني غانتس، على خطٍّ سياسي رفيع حتى لا يُنظَر إليهم على أنهم هم الذين كسروا الوحدة السياسية الهشّة لإسرائيل خلال الحرب الأكثر حسمًا.

لا شيءَ من هذا ينطبق على بن غفير. الرجل، الذي يرى نفسه سليلًا سياسيًا لأمثال مئير كاهانا سيِّئ السمعة، هو من أشد المدافعين عن الحرب الدينية. وبما أنَّ الحروب الدينية لا يمكن أن تكون إلّا نتيجًة لظروف اجتماعية وسياسية فوضوية، فهو حريصٌ على التحريض على هذه الأحداث ذاتها التي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى هذه الحرب المرغوبة.

وأحد الشروط الأساسية هو العنف المختل، حيث يُقتَلُ الناس بناءً على مجرّد الاشتباه في كونهم “إرهابيين”. على سبيل المثال، في 18 كانون الثاني (يناير)، قال بن غفير لضبّاط شرطة الحدود الإسرائيلية خلالَ زيارةٍ إلى قاعدةٍ في الضفة الغربية، “لديكم مني دعمٌ كامل”، وحَثَّهم على إطلاق النار على كلِّ “إرهابي”، حتى لو لم يكن يُشكّلُ تهديدًا.

بطبيعة الحال، ينظرُ بن غفير إلى كل الفلسطينيين في الضفة الغربية باعتبارهم إرهابيين مُحتَمَلين، بالطريقة نفسها التي ينظر بها رئيس إسرائيل “المعتدل” إسحاق هرتسوغ إلى كل سكان غزة باعتبارهم “مسؤولين” عن تصرّفات “حماس”. وهذا يعني بشكل أساسي أنه من المتوقع أن تقتل القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية ما شاءت من الفلسطينيين والإفلات من العقاب كما يفعل أولئك الذين يقتلون في غزة.

وعلى الرغم من أن مسؤولي الأمن والمخابرات في إسرائيل حذّروا نتنياهو من شنِّ جبهةِ حربٍ أخرى في الضفة الغربية، إلّا أنَّ الجيش الإسرائيلي ليس لديه خيار آخر سوى خوض تلك “الحرب” المفترضة على أيِّ حال. لماذا؟

ينظر قطاع كبير من الناخبين في إسرائيل بالفعل إلى القوات الإسرائيلية على أنها فاشلة لعدم قدرتها على منع هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) أو الردّ عليها بنجاح، حتى بعد أكثر من 100 يوم من الحرب في غزة. ومن أجل استرداد شرفهم الملطّخ، فإنهم سعداء بخوض “حرب” أقل تحدّيًا ضد المقاتلين الفلسطينيين المعزولين وغير المُجَهَّزين في أجزاءٍ صغيرة من الضفة الغربية.

بن غفير، بالطبع، مُستَعِدٌّ للتلاعب بكل هذه العناصر لصالحه. وهو يحصل على ما يريده بالضبط، من توسيع الحرب إلى الضفة الغربية، والتطهير العرقي للفلسطينيين، وتعذيب السجناء، وهدم المنازل، وإحراق الممتلكات وكلّ شيء آخر.

ولعلَّ أعظم إنجازات بن غفير، حتى الآن، هو قدرته على خلقِ اندماجٍ مثالي بين المصالح السياسية للمستوطنين والحكومة وأجهزتها الأمنية.

ومع ذلك، فإن هدفه ليس مجرّد سرقة المزيد من الأراضي الفلسطينية، أو توسيع بعض المستوطنات. فهو يريد حربًا دينية، حربٌ ستؤدي في نهاية المطاف إلى التطهير العرقي للفلسطينيين، ليس فقط في غزة، بل في الضفة الغربية أيضًا.

وتشكّلُ الحربُ في غزة فرصةً مثالية لتحقيق هذه الأهداف الشريرة. في الوقت الحالي، تستمر حرب الإبادة الجماعية هذه في خلق الفرص للصهيونية الدينية لاكتسابِ أتباعٍ جدد، وإرساءِ جذورٍ أعمق داخل المؤسسة السياسية الإسرائيلية.

مع ذلك، فإن النهاية المفاجئة للحرب قد تُمثّلُ تهميشًا للصهيونية الدينية لسنواتٍ مقبلة طويلة.

  • رمزي بارود هو صحافي أميركي من أصلٍ فلسطيني ورئيس تحرير “فلسطين كرونيكل”. ألَّف ستة كتب، والأخير منها، شارك في تحريره إيلان بابي، هو “رؤيتنا للتحرير: القادة والمثقفون الفلسطينيون المشاركون يتحدثون علناً”. وبارود هو زميل أبحاث كبير غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية (CIGA). يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: ramzybaroud.net

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى