أزمَةُ ديونٍ عالمية مُقبِلة

آن كروغر*

في تقريره الأخير عن آفاقِ الاقتصادِ العالمي، أفادَ صندوق النقد الدولي أنَّ نسبةً مُتزايدة من البلدان، 56 في المئة من البلدان المنخفضة الدخل و25 في المئة من الأسواق الناشئة، “تعيش في مستوياتٍ عالية من ضائقةِ ديون أو عندها”. ورُغمَ أنَّ بعضَ هذه البلدان يعملُ بالفعل على تنفيذِ برامج إصلاحية من شأنها أن تجعله مؤهَّلًا للحصول على تمويلٍ من صندوق النقد الدولي الذي يُمكن أن يُوَفِّرَ له آفاقًا جيدة للنمو الاقتصادي، فإنَّ العديدَ من هذه البلدان ليس كذلك. إن أزمةَ ديونٍ في العالم النامي تلوحُ في الأفق.

عادةً ما تَسبقُ مُستويات المديونية المرتفعة للغاية فترةٌ يقوم خلالها الدائنون بتجديد مطالباتهم أو تقديم قروض جديدة، مع أسعار فائدة مرتفعة بشكلٍ متزايد. لا توجد طريقة بسيطة لتحديد متى يصبح هذا الدين غير مُستدام. غالبًا ما يَستَخدمُ المُحلّلون نسبةَ الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، ولكن أسعار الفائدة تُحدِثُ فرقًا هنا. وقد تكونُ لدى البلدان المنخفضة الدخل، التي تواجه أسعار فائدة مُيَسَّرة، نِسَبًا أقل من اقتصادات الأسواق الناشئة، حيث أسعار الفائدة أعلى. كما إنَّ هيكلَ استحقاق الدين مُهم أيضًا: فإذا كان أغلبه مُستَحَقًا قريبًا، فإن عمليات التجديد (أو التجديدات) المطلوبة ستكون أكبر بكثير من الديون ذات فترات استحقاق أطول.

ويكون الاقتراض من جانب البلدان الفقيرة مُبَرَّرًا إذا كانت القروض تُمَوِّلُ الأنشطة التي من شأنها أن تَدُرَّ مُعَدَّلَ عائدٍ مُرتَفِعًا للمُقتَرِض، الذي تقومُ موارده الخاصة بالفعل بتمويلِ أنشطةٍ جديرة بالاهتمام. وفي مثل هذا السيناريو، من الممكن أن تكون خدمة الدين ذاتية التمويل (باستثناء الصدمات غير المُتَوَقَّعة). والمشكلة هي أنَّ الاقتراضَ السيادي، في العديد من البلدان، كانَ إلى حدٍّ كبير يهدفُ إلى تمويلِ النفقات ذات معدلات عائد منخفضة أو سلبية، مثل الملاعب الرياضية أو الصدقات قبل الانتخابات.

ومثل هذا الإنفاق، إلى جانب الديون الضخمة والعجز المالي، من الممكن أن يجعل المُقرِضين حذرين، الأمر الذي يجعل البلدان تكافح من أجل الاقتراض، وخصوصًا في أوقات ارتفاع أسعار الفائدة. فعندما يبدأ الدائنون في رفض تجديد الديون المستحقّة لمّا يحين موعد دفعها، أو عندما يصبح سعر الفائدة الذي سيتم فرضه على الديون الجديدة أو المُجدّدة باهظًا، تندلعُ أزمةُ ديون.

في نظرِ الكثيرين، يبدو الحل لضائقة الديون في البلدان النامية واضحًا: تخفيف أعباء الديون عن البلدان التي تحتاج إلى ذلك، حتى يتسنّى لها إعادة تخصيص أقساط خدمة الديون نحو الإنفاق على الخدمات الاجتماعية، مثل الصحة والتعليم. لكن التجربة تثبت أنَّ إعادةَ التخصيص هذه ليست مضمونة دائمًا. عندما تم إعفاء أفقر دول العالم من ديونها بموجب مبادرة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشأن البلدان الفقيرة المُثقَلة بالديون، والتي تم إطلاقها في العام 1996، لم تتبع ذلك إصلاحات اقتصادية كافية. ومرة أخرى، أصبح العديد من هذه البلدان مُثقَلًا بالديون.

من المؤكد أن تخفيف أعباء الديون أمرٌ مطلوب وضروري. ولكن إقراض الحكومات، حتى بشروطٍ مُيَسَّرة، التي لا تستطيع أو لا ترغب في انتهاجِ سياساتٍ اقتصادية سليمة وواقعية ومُشَجِّعة للأعمال التجارية، يعني ببساطة زيادة التزاماتها المُتعلّقة بخدمة الديون في المستقبل. ولهذا السبب فإنَّ تخفيفَ أعباء الديون لا بدَّ أن يكونَ مشروطًا بمثل هذه الإصلاحات.

هذه ليست فكرة جديدة. منذ منتصف القرن العشرين، عندما شَكَّلَ الدائنون السياديون تَجَمُّعَ نادي باريس غير الرسمي لإيجادِ حلولٍ للصعوبات التي تواجهها البلدان في خدمة الديون، واعتمدوا على صندوق النقد الدولي لتقييم التوقّعات الاقتصادية للمدينين وتحديد تعديلات السياسات اللازمة لتحسين الأداء الاقتصادي، أدرك َالدائنون أنه في غياب الإصلاحات فإنَّ الديون سوف تتراكم مرة أخرى إلى أن تندلع أزمة أخرى.

ولكن بعض الحكومات يقترض مبالغ كبيرة إلى الحدِّ الذي يجعلُ أيَّ تعديلاتٍ سياسية معقولة كافية لتمكينها من الوفاء بالتزاماتها في مجال خدمة الديون من دون فرض “تقليم” (haircut) قيمة الديون على الدائنين. وفي مثل هذه الحالات، يجوز لأعضاء نادي باريس السماح بإعادة جدولة خدمة الدين، وبالتالي خفض صافي القيمة الحالية للدين إلى مستوى يُمكن تحمّله.

وبمجرّد التوصّلِ إلى مثل هذا الاتفاق، فإنَّ قرضَ صندوق النقد الدولي يُمَكِّنُ البلادَ من استئناف الواردات بينما تدخلُ الإصلاحات الاقتصادية حيّز التنفيذ، ما يؤدي إلى ارتفاع النمو. ومن الواضح أن غالبية الدائنين من القطاع الخاص لا بدَّ أن تُوافِقَ أيضًا على أيِّ عمليةِ إعادةِ هيكلة؛ وإلّا فإنَّ البلادَ سوف تُترَكُ لخدمةِ الديون المُستَحِقّة على الرافضين، ما يُقلّل من المبلغ المتاح لأولئك الذين يوافقون على إعادة الهيكلة.

في التسعينيات الفائتة، تمَّ تنفيذُ تغييراتٍ أدّت إلى التعجيل بحلِّ مشاكل الديون، على الرُغم من أن التأخير كان مُتكرّرًا ومُكلِفًا بالنسبة إلى البلدان المدينة. ولكن بحلول نهاية القرن العشرين، كانت الحكومات تقترض بشكل متزايد من مصادر خاصة. وفي العام 2010، كانت الاقتصادات المنخفضة والمتوسطة الدخل مدينة بنسبة 46 في المئة من ديونها الخارجية العامة الطويلة الأجل والمضمونة من الحكومة لدائنين من القطاع الخاص. وبحلول العام 2021، ارتفعت هذه الحصة إلى 61 في المئة.

ورُغمَ انخفاضِ حصّة نادي باريس من الديون، إلّا أنَّ إجراءاته استمرّت. وعندما واجهت تركيا صعوبات في خدمة الديون في العام 2002، أجرت إصلاحاتٍ  في سياستها وحصلت على قرض من صندوق النقد الدولي، وسرعان ما استعادت نمو الناتج المحلي الإجمالي السريع. وفي الوقت نفسه تقريبًا، أصبحت الأرجنتين غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها، لذا كان لا بدَّ من إعادة هيكلة ديونها.

لكن اليوم هناك مُقرِض سيادي رئيس آخر، الصين، التي رفضت الانضمام إلى نادي باريس. ومن الطبيعي أن يتردّدَ الدائنون الآخرون في المشاركة في إعادة هيكلة الديون إذا لم تشارك الصين، خشية أن ينتهي بهم الأمر إلى تمويل مدفوعات خدمة الديون الكاملة للصين بشكل فعال. وبالفعل واجهت سريلانكا وزامبيا تأخيرات طويلة في الحصول على تخفيف أعباء الديون، لأن دائنيهما الصينيين يرفضون الموافقة على شروط إعادة هيكلة الديون المتفق عليها في نادي باريس، حتى برغم أن صندوق النقد الدولي دعم برامج الإصلاح الاقتصادي المرتبطة بها.

ومن حسن الحظ أن الوضع المالي في أيٍّ من البلدين لم يجذب عناوين الأخبار الرئيسة، ولم يسحب الدائنون الإقراض من آخرين. ولكن بعض البلدان، بما في ذلك مصر ولبنان وباكستان وتركيا والعديد من الاقتصادات الأصغر حجمًا، سجّلت ارتفاعًا في نسب الدين إلى الصادرات وخدمة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. وفي لبنان، بلغ الدين الخارجي 603 في المئة من الصادرات و381 في المئة من الدخل القومي الإجمالي في العام 2021.

وإذا واجه العديد من الأسواق الناشئة الكبرى والبلدان المنخفضة الدخل في وقت واحد ارتفاع أسعار الفائدة وزيادة إحجام الدائنين عن تمديد ديونهم، فمن المرجح أن تندلع أزمة ديون عالمية. ولتجنّب هذا السيناريو، يحتاج العالم إلى اتفاقٍ دولي يُحدّدُ الإجراءات اللازمة لدعم الدول المُثقَلة بالديون، وبالتالي تمكين صندوق النقد الدولي من تقديم القروض بشكلٍ أسرع. ويجب على جميع الدائنين الالتزام به.

  • آن كروغر هي كبيرة الاقتصاديين السابقة في البنك الدولي والنائب الأول السابق للمدير الإداري لصندوق النقد الدولي، وأستاذة أبحاث أولى في الاقتصاد الدولي في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز وزميلة أولى في مركز التنمية الدولية في جامعة جامعة ستانفورد.
  • كُتِبَ هذا المقال بالانكليزية وعرّبه قسم الدراسات الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى