“دَورٌ مُهِمٌّ” لفرنسا بَينَ بيروت وتل أبيب

محمّد قوّاص*

تَعَطَّلَت طائرةُ وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا فتأجَّلَت زيارتها للبنان من السبت إلى الاثنين الماضيين. كانَ يُفتَرَضُ بالوزيرة الفرنسية أن تزورَ لبنان قبل إسرائيل، وكأنّها كانت تودّ نَقلَ انطباعاتِ زيارتها اللبنانية إلى الإسرائيليين، فحصلَ العكس وجاءت كولونا إلى بيروت مُحَمَّلةً برسائل إسرائيلية من تهديدٍ ووعيد.

يكشفُ المانِعُ التقني بالمصادفة حدودَ دور فرنسا وعدم عجالته. ينصبُّ جُهدُ فرنسا، ومن خلال مهمّات كولونا بالذات، على مَنعِ انفجارِ الوضعِ في جنوب لبنان إلى مستوى الحرب الكبرى. ولا يُمكِنُ للديبلوماسية الفرنسية في هذا الشأن أن تعملَ إلّا بالتشاور مع الولايات المتحدة التي تملكُ سوابقَ من نفوذٍ وعلاقاتٍ في لبنان وإسرائيل. وإذا ما سبق لمستشار الرئاسة الأميركية آموس هوكستاين أن زارَ البلدين لسحب فتيل ذلك الانفجار المقيت، فإنَّ أسئلةً تدورُ بشأن ما يمكن لكولونا وباريس من ورائها أن تُضيفَهُ إلى دورِ موفد واشنطن.

تكشفُ الجلسةُ النيابية التي قلبت كل الحسابات وأقرّت في 15 من الشهر الجاري تأجيل تقاعد رؤساء الأجهزة الأمنية العسكريين، وفي مقدمتهم قائد الجيش العماد جوزيف عون لمدة عام، أنَّ لبنان أصغى جيدًا إلى ما حمله موفد الرئاسة الفرنسية جان إيف لودريان إلى بيروت أواخر الشهر الماضي من خطورةِ الفراغ داخل الجسم الأمني وعمل بنصائحه بالتمديد لقائد الجيش. ذهب الرجل إلى إبلاغِ من يهمّه الأمر أنَّ وجود القائد على رأس جيشه هو حاجة لـ”ضمان أمن فرنسا وأوروبا” أيضًا. وبغضّ النظر عن المُماحكات اللبنانية الداخلية، فإنَّ المشهدَ البرلماني أظهرَ اصطفافاتٍ سريالية التقت على الاستجابة لإرادةٍ إقليمية-دولية نقلها الوزير الفرنسي مُنتَدَبًا من اللجنة الخُماسية (فرنسا والولايات المتحدة والسعودية ومصر وقطر) المعنيّة بالشأن اللبناني.

لم تَغِبْ باريس في مداولات لودريان عن التواصل مع طهران. بدا أنَّ “حزب الله” نفّذَ إيحاءاتٍ إيرانية باتجاه حَلِّ تلك العقدة من خلال مناورةٍ داخل مجلس النواب على الطريقة اللبنانية. استجاب الحزب للوزير الفرنسي ومَن يقف خلفه من دون التورّط مباشرة في هذا التطوّر، فسحب نوابه ما دام غيابهم لا يُعطّل أمر الإيحاءات الواردة من بعيد. ووفق ما تمّ داخل مجلس النواب، حملت كولونا رسائل جديدة بشأن ترتيباتٍ أشبه بتمنيات وتحذيرات لوقف الانزلاق نحو الحرب الكبرى.

زارت كولونا إسرائيل قبل أن تزورَ لبنان. سمعت كولونا وسمعت معها بيروت تهديدات وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين بعظائم الأمور ضد لبنان إذا لم تتوقّف جبهة جنوبه عن تشكيلِ خطرٍ على شمال إسرائيل والمستوطنات هناك. سبق لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن هدّدَ بغزة أخرى في بيروت ولبنان إذا ما واصل “حزب الله” تهديد إسرائيل. وفي ثنايا الوعيد في زمن الحرب على إسرائيل الجنوبية في قطاع غزة، مداولات لتدابير تهدئة لجبهة الشمال من خلال العودة إلى القرار 1701.

وإذا ما سيكون مطلوبًا من إسرائيل تنفيذ التزاماتها في هذا القرار، فإنَّ جلبةً غربية (الفايننشال تايمز تكشف عن جهود أميركية-بريطانية-فرنسية) تتحدث عن تراجع “حزب الله” مسافة 30-40 كيلومترًا عن الحدود اللبنانية-الإسرائيلية وسحب مقاتلي “قوة الرضوان” والأسلحة الثقيلة من المناطق الواقعة جنوب نهر الليطاني. وعلى رُغمِ تلك الجلبة، فإنَّ أوساطَ الحزب إمّا ترفضُ وإمّا تنفي أن يكونَ موفدو الخارج حملوا أيَّ اقتراحاتٍ بهذا الصدد أو تَوَعّدوا بتعديلٍ للقرار الدولي.

تقول مصادر فرنسا إنَّ المستشارَ الأميركي هوكستاين يعملُ على إتمامِ خطةٍ لترسيم الحدود، وإنَّ في الخطة انسحابًا إسرائيليًا مُعَيَّنًا من مزارع شبعا والجزء اللبناني من قرية الغجر، وإنه فهم من زيارته الأخيرة لإسرائيل استعدادًا إسرائيليًا في هذا الشأن. وإذا ما تأتي كولونا إلى لبنان مُستَندةً إلى نتائج مهمة رئيس الاستخبارات العامة الفرنسية السفير برنار إيمييه في بيروت أوائل الشهر الجاري، فإنَّ مبعوثِي باريس معنيّون أوّلًا وأخيرًا بالتفاوض مع الحزب لإعداد المُقايضة.

يصدرُ عن نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم ما يُجهِضُ كلَّ الأنباء عن خطّةٍ يتراجع بموجبها الحزب وسلاحه الثقيل عن الحدود من ضمن ترتيباتٍ متبادلة للقرار 1701. الحزب (ومن خلفه طهران) لن يبرّد جبهة لبنان ما دامت إسرائيل ماضية في حربها في قطاع غزة. بمعنى آخر، فإنَّ المفاوضات التي حملَ مُوفَدُ واشنطن وموفدو باريس أوراقها تحتاج إلى إظهار أوراق قوة تُحسِّنُ من ثمارِ الحزب وطهران في الصفقة العتيدة. فإذا ما كان تنفيذ القرار الأممي يسحب من طهران ورقة جنوب لبنان، فإنَّ الحزب يسعى إلى اعترافٍ إقليمي-دولي يعترف له بأوراق القوة في بيروت.

صَحيحٌ أنَّ التصويتَ على التمديد لقائد الجيش في مجلس النواب مرّ من دون الحاجة إلى حضور نواب الحزب، بما يوحي بأنَّ الأمرَ قابلٌ للتطبيق لانتخاب رئيس للجمهورية (وانتخاب عون بالذات)، غير أنَّ الأمرَ ما كان ليمرّ إلّا لأنَّ الحزبَ ارتأى تمريره، وأن توافقاتٍ خارجية داخلية أخرى يحتاجها انتخاب رئيسٍ للبنان. ورُغمَ أنَّ بعض السيناريوات تتحدث عن مقايضة الـ1701 جنوبًا بانتخاب مرشح الحزب سليمان فرنجية في بيروت، غير أنَّ أجواءَ باريس واللجنة الخماسية ما زالت لا توحي بذلك.

أحدثت عملية “طوفان الأقصى” انقلابًا في موازين القوى الإقليمية وارتباكًا داخل المشهد الدولي. ورُغمَ أنَّ الحدث أضاف معوقات جديدة إلى تفاهمات دولية-إقليمية-محلية بشأن انتخاب رئيسٍ للبنان، لكنه لم يُعَطِّل مع ذلك استجابة بيروت لرغباتٍ خارجية بعدم إحداث فراغ على مستوى الجيش والأجهزة الأمنية. وإذا ما كانت كل المنطقة مُتَوَجِّسة مما بعد غزّة من تداعياتٍ على موازين القوى الإقليمية، فإنه سيكون صعبًا الإقرار بموازين معيّنة في لبنان لمصلحة الحزب أو خصومه ما دامت حرب غزة لم تنته ولم يظهر الخيط الأبيض من الأسود في مآلاتها.

يدعمُ حراك باريس ما قاله مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان من إسرائيل بأنَّ توتّرَ الجبهة الشمالية يُحَلُّ بالوسائل الديبلوماسية. والواضح أن فرنسا مُنخَرِطة في ورشة إدارة الصراع والحضور في أروقته، وتتحرّى دورًا مُمَيّزًا يعترف لها بمكانتها لدى لبنان، وقد حصلت كولونا في إسرائيل من نظيرها على اعترافٍ بـ”دور مهم” لفرنسا لمنع اندلاع الحرب في لبنان. والواضح في المقابل أنَّ “حزب الله” مُرتاحٌ لإطلالةٍ دولية له ما زالت فرنسا توفّرها، وهي الدولة التي لم تُدرِجه على لوائح الإرهاب على منوال ما فعلت دولٌ أوروبية أساسية مثل بريطانيا وألمانيا. وإذا ما يقدِّم الحزب التمديد لقائد الجيش وهو مطلبٌ عزيرٌ على قلب لودريان، فإنه يودّ من خلال “الدور المهم” لفرنسا تثبيت عنوانه مَمَرًّا وحيدًا لمصير لبنان في تبريد جبهة لبنان الجنوبية وفق توقيت طهران وفي تقرير مسار ومصير قادة الأجهزة أو رئيس الجمهورية يومًا ما وفق حسابات الحاكم في طهران. تتمسّك إيران أمام باريس بورقتها في لبنان فيما تحالفٌ دولي يُهدّدُ من البحر الأحمر أوراقها في اليمن.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى