حُفاةٌ خَرجنا من الحرب… لن نعودَ حُفاةً!

بقلم البروفسور بيار الخوري*

وضعت الحرب اللبنانية أوزارها مع انتصار “إتفاق الطائف” الذي وُقِّع في آب (أغسطس) 1989، وخروج العماد ميشال عون من القصر الجمهوري الى السفارة الفرنسية في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990، ومن ثم نفيه إلى باريس في 28 آب (أغسطس) 1991، حيث تم بعدها تشكيل حكومة الرئيس رشيد الصلح، وحكومة الرئيس عمر كرامي، ثم جاءت ليلة الدواليب المشتعلة التي تبعتها حكومات الرئيس رفيق الحريري.
خرجنا من الحرب حفاةً، علينا ان نعوِّض خمسة عشر عاماً بسنة واحدة، علينا ان نُنافس اولئك “اليوبيز” (Yuppies) (المُترَفون) الذين جاء بهم مشروع الإعمار من كافة أصقاع الأرض، ومن أفضل جامعات ومؤسسات العالم. جاؤوا بنمط حياتهم ومستوى معيشتهم ونظرة فيها من التغرّب بقدر ما فيها من السطحية الى الوطن المُعقَّد، في أرضٍ كانت فاقدة القدرة على التوازن، مستعدة للقبول بكل شيء لتمحو عارها بعد ان تحلل الجميع من الحرب في ليلة وضحاها.
بعضُ مَن في جيلنا جنّ، وبعضٌ آخر إنتحر، وبعضٌ ثالث توحّد، ورابعٌ هرب بعدما صمد طوال الحرب، وخامسٌ خَدَّرَ نفسه في ذلك الملاذ القاتل، وكثيرون آخرون قرروا أن… يستمروا في المشي إلى الأمام.
كنّا جيلاً جبّاراً، ولذلك انتصرنا واستطعنا الإندماج، وفهم قوانين اللعبة الجديدة المُختلفة كلياً عن تلك التي عرفنا لبنان بها، أو أفهمتنا إياها تربيتنا الأخلاقية وعلّمها لنا أهلنا قبل الحرب وخلالها. نافسنا وبرعنا وانتزعنا كراسينا بين “اليوبيز”، واشترينا ثياباً وأحذية وسيارات حديثة، وارتدنا أماكنهم المُستَحدَثة، وكنا بكل المقاييس أفضل ما أنتجته البلاد بعد الحرب. أفضل لا بسبب حداثة علومنا، ولا بفعل حداثتنا، بل بفعل ثقافة الجيل التي طبخناها جيداً في ذواتنا على ابواب الحرب وخلالها. لن تجد زعيماً بعد الحرب (أقله حتى أوائل الألفية)، إلّا وحوله المثقفون الذين صُنِعت ثقافتهم حتى نهاية الحرب. الحريري الأب جعل منهم وزراء ونواباً وقيادات حزبية ومستشارين رغم كثرة ما استورد من الخبرات اللبنانية في العالم، ورغم كونه يُمثل نقيض قِيَم ومفاهيم هؤلاء المثقفين. كثيرون غيره فعلوا ذلك وإن بإتقانٍ أقل.
ما الذي تغيّر بين الجيل المخضرم وجيل ما بعد الحرب؟
قِيَم المال والإفتراض ان مراكمة المال تُعوِّض غياب القِيَم الأخرى. قليلون من أبناء جيل ما بعد الحرب حملوا رسالة حياة، وأقل منهم سعوا في سبيل فهم الصورة الكبرى ضمن هذه الرسالة. عبّر عن ذلك بوضوحٍ فاقع تراجع الإنتساب إلى كليات العلوم الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والتاريخ (وهي التي ترسم بامتياز الصورة الكبيرة في رؤوس خريجيها)، وتَرَكُّز الخريجين في كليات إدارة الاعمال والهندسة والعلوم الإختصاصية. تراجُعٌ توافق مع تغيّر في أسواق العمل التي سعت إلى استقطاب كفاءات مهنية في ظل تحوّل القيادات المؤسساتية الى نادي قلة. تم تفريغ الهيكل القيادي، واتسعت الفجوة بين القيادة وجمهور “اليوبيز” الجدد من الموظفين الذين يجيدون الإلتزام بتوصيف وظائفهم، ويُحسنون جيداً حساب مداخيلهم ولكن… مداخيلهم وعلاواتهم فحسب.
من يتابع تطورات الأزمة العميقة، السياسية والإقتصادية في لبنان، لا يصعب عليه أن يُدرك قوة ردة الفعل المجتمعية تجاه الأحداث والإستقطابات السياسبة مقابل ردة الفعل السطحية، وأحياناً اللا مبالية، تجاه الأزمة الإقتصادية.
نحن أمام احتمال سقوطٍ جماعي. إننا نقترب سريعاً من الإرتطام بجبل الجليد، والسباحة هذه المرة تحتاج إلى المال الكثير، و٩٠ في المئة منّا لا يملك هذا المال حتى قبل السقوط. ومَن لا يملك المال الكثير عليه ان يمتلك الوعي الكبير الذي لم تعد كفاءاتنا وشبابنا وعائلانتا حالياً تتميّز به.
علينا ان نتحضر للأصعب، وان نُدرك أن العالم انقلب بحدة في ثلاثين عاماً، والزمن الحاضر لم يَعُد يُقدِّر الحُفاة.

• البروفسور بيار الخوري هو أكاديمي وباحث إقتصادي واجتماعي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى