لبنان: التغييريون في برلمان “كُلُّن يَعني كُلُّن”

محمّد قوّاص*

قد تَصعُبُ الثقة بالنوّاب المُنتَخَبين في برلمان لبنان الجديد المُنتَمين إلى الأحزابِ السياسية التي حَكَمَت البلد عقودًا أو سنوات. وقد تَصعُبُ أيضًا الثقة الكاملة بالنوّابِ “التغييريين” الذين لم يُشاركوا في الحُكمِ أبدًا ولم يَسبَق أن كانت لهم تجارِبٌ في العمل السياسي العام. فإذا ما ارتكبت الفئة الأولى خطايا العمل وانحرافاته، فإن الفئة الثانية لم تُلَوِّثها المحظورات طالما أنها كانت خارج أيّ تجربةٍ وأيّ مسؤوليات.

في المُقابل لا يُمكِنُ إلّا الوثوق بالحسِّ المُجتَمَعي العام الذي لم ترصده مؤسّسات استطلاعات الرأي، في قدرته، حين يُريدُ وتتوافر له الفرصة، أن يُعاقِبَ ويُهمِّشَ ويُسقِطَ رؤوسًا لم تُصَدِّق يومًا أنه حان قطافها. فإذا ما شاع الحديث عن خُضوعِ العامة وخنوعِها وإحباطِها وارتهانِها للسائد، فإن الوَعيَ العام لم يتردّد في المغامرة في انتخابِ “مَجهولين” بديلًا من / وتَشَفِّيًا من واجهاتٍ بات تحطيمها ضرورة.

ليس بالضرورة أنَّ مَن خَرَجَ من السباقِ البرلماني الأخير هو أسوأُ مِمَن فازَ به. وطبعًا ليسَ مَن حالفه الحظ هو “أشرف الناس”. فللأمرِ حيثيات حسابية وتكتيكات انتخابية، ومن النتائجِ ما يَنضَحُ به إناءُ قانون الانتخابات الخبيث. وإذا ما أعادَ الناخِبُ تأكيدَ ثقته بمُرَشَّحي “القوات اللبنانية” و “التقدّمي الاشتراكي” أو بمُرَشَّحي “الثُنائي الشيعي” و”التيار الوطني”، فإن في ذلك تأكيدًا لهزال شعار “كُلُّن يَعني كُلُّن” الذي بدا، في لحظةٍ ما إثر “ثورة 17 تشرين”، أنه بات قانونًا لاهوتيًا يَجوزُ تكفير مُناهِضيه.

الشِعارُ الشعبوي السهل الذي راجَ بنجاحٍ يحتاجُ من أجلِ تحقيقه مَجازًا إلى نَصبِ مَقاصِلِ الثورة الفرنسية ومَشانِقِ الثورة الخمينية في إيران، وفَرضِ “ثورةٍ ثقافية” على الطريقة الصينية أو تلك التي ارتكبها بول بوت في كامبوديا… إلخ. وإذا ما كان أصحابُ الشعارِ لا يَمتلِكون فِعلَ ذلك ولا يُمكِنُ في لبنان ارتكاب ذلك، فإن في الشعارِ إنفعالًا غير عاقلٍ يَضَعُ الساسةَ “المَعروفين” في سَلّةٍ واحدة تجمع صالحهم وطالحهم، لمصلَحَةِ “مَجهولين” مُنَزَّهين عن الرذيلة والرجس، فقط لأنهم ما كانوا يومًا في مواقع التجربة والامتحان.

والناسُ في وَعيِهِم الجَمَعي المُتَأَسِّسِ على تَراكُمٍ مَعرِفيٍّ غَريزيٍّ في حِكايةِ البلد وتاريخه، أقصوا بعضًا ومدَّدوا لآخرين، فيما وَلَّدَ مَخاضُ “الثورة” 13 مُنتَخبًا (14 مع بولا يعقوبيان)، هم على قِلّتهم، تَجاوَزَ عددهم التوقّعات المُتفائلة. وفيما يَرصُدُ الناس كما عتاة الساسة كلّ تصريحٍ ومَوقفٍ وديباجةٍ تَخرُجُ من أفواه الوجوه المُختَرِقة لـ”المحادل”، فإن في حَملِ واحدٍ منهم على الأكتاف والرقص على أنغام أغنية “الله سوريا وبشار”، مُقابل إعراض العملية الانتخابية عن حمل شخصيات مثل فارس سعيد ومصطفى علوش مثلًا إلى برلمان لبنان لدليل على سريالية المزاج العام وتعقّد شيفرته.

على أن مجموعة “نواب الثورة” تترجّل إلى المشهد السياسي اللبناني لتواجه براكين من الأسئلة التي تعود إلى تشكّل الكيان وقيامِ شبكات مصالحه وتجذّرِ نظامه الطائفي واستعصاءِ السلاح الميليشيوي. وإذا ما كانت الطبقة السياسية عرفت معموديات النار في كلِّ الملفّات، لا سيما ذلك المُتَعَلِّق بـ”حزب الله” وترسانته، فإن في الردود الأولى لـ”شبان الثورة” على تلك الأسئلة ما يَكشفُ أنهم غادروا الساحات والميادين وشعار “كُلُّن يَعني كُلُّن” وباتوا مُجبَرين على استيعاب هذا الاستحقاق والإقرار بأنّ عليهم، على ما يبدو، استخدام مُفرداتٍ سَبَقَ استهلاكها من قبل “كُلُّن يَعني كُلُّن”.

ينبغي عدم التَسَرُّعِ في الحُكمِ على ما يحمله “نواب الثورة”. في مواجهة سؤال “السلاح” بدت الردود تبسيطية فيها تمسّك بمبدَإِ سيادة الدولة، وهذا مُتّفَقٌ عليه حتى من جانب “حزب الله” التوّاق إلى الدولة “العادلة”. وبدا في بعض المواقف كثيرٌ من التمييع اللغوي في سُبُلِ تحقيقِ الأمر وكيفية تخليصِ الدولة من دويلتها. وبدا في بعض التصريحات طوباوية طهرانية قد تُضَجِّرُ الناخب في سويسرا والنروج فما بالك بذاك في لبنان. وبدا أيضًا أن سعي “الشباب” إلى تأكيدِ وِحدة نظرتهم ولسانهم فيه كثيرٌ من التمنّي الذي قد تُطيحُ به كواليس البرلمان وتلفيقاته.

والمُفارَقة أن لا أحد من ساسةِ البلد يأخذ هذه الكتلة التغييرية على مَحمَلِ الجَدّ. حتى أن إجماعَهَم على الترحيب بها والتغنّي بدخولها الندوة البرلمانية أمرٌ مُفتَرَض أن يُقلِقَ عتاة شعار “كُلُّن يَعني كُلُّن”. والأدهى أن انعزالَ تلك الكتلة وتوحّدها (إذا ما استطاعت ذلك) قد لا يجعلها فاعلة في مسائل التغيير. فيما تحالفها، حتى على القطعة، مع الكتل السياسية العتيقة قد يُسقِطُ تميّزها ويُحوّلها إلى أرقامٍ داخل حسابات الكبار. وطبعًا في الحسابات ما هو بيتي “زواريبي”، وما هو خارجي تقوم عليه أجندات لا تتجاوز قدراتهم فقط، بل قدرات البلد بأجمعه.

يحتاج دهاة السياسة إلى كثيرٍ من الرشاقة والمُرونة للتعامل مع التغيير و”فرسانه” بصفتهما قِيَمًا مُضافة للبلد ومصالحه. ويحتاج “التغييريون” إلى بعض التواضع مع الاقتناعِ بأنفسهم قيمةً حقيقية وَجَبَ حُسن تفعيلها. ولئن منح الناخب “التغيير” فُرصةً، فإن على أصحابه أن يُحسِنوا إحداث فارقٍ نوعي، حتى لو كان نسبيًا أو إجرائيًا شكليًّا مُعانِدًا للأعراف، يجبر الأغلبية السياسية الكاسحة على أن تَحسُبَ لهم حسابًا في ميزان الأرباح والخسائر.

قد لا يكون صادمًا إذا ما حملت الأكتاف “تغييرًا” ابن بيئة لا تزال ترى ولاءها وأمنها خارج حدود البلد. فذلك على الأقل يُفيدُ بأنه ليس آتيًاً من كوكبٍ آخر وهو نتاجُ هذا المُجتمع بعصبيّاته وقلقه. وقد لا يكون مُفاجِئًا أمر لغّة “التفهّم” التي صدرت عن زملاءٍ له لوجود “السلاح” وكيفية مقاربته. وإذا ما كانت “العينُ بَصيرة واليدُ قصيرة”، فإن “التغييرَ” أمام اختبارٍ لم تزعم تلك الوجوه الإمساك بمفاتيحه، لكنه من دون شكّ يُشكِّلُ رافعةً لا يزالُ من المُبكِرِ التعويلُ عليها أو الكفرُ بها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى