البانتيون: كيف الأُمَّة تتكَرَّم بـخالديها (1 من 3)

بانتيون روما: المثال الـمُحتذى

هنري زغيب*

تبدأُ الهَيبَة من مدخله الفخم، على جبينه عبارة ساطعة: “الرجال العظماء تعترف بفضلهم الأُمَّة”. وفي الداخل صمْتٌ يضجُّ بذكراهم، بنتاجهم، بأَصواتهم، بحضورهم الذي لم يقطعْه الموت لأَن جسدهم في كل ضريح باقٍ مخلَّدًا على التاريخ.

هذا هو “البانتيون” في قلب باريس، وهذه هيبتُه في قلب العالم.

ولأَن دأْبي أَن أُضيْءَ في مقالاتي لقراء “أسواق العرب” ثقافةً عامة منوَّعةً في الآداب والفنون، أَنسُجُ نبذةً عن هذا الصرح الفرنسي التاريخي.

جبين المدخل وعليه العبارة التكريمية

من روما …

البداية من روما حيث “البانتيون” أَساسًا معبدٌ قديم في قلب المدينة، يعود بناؤُه إِلى القرن الأَول قبل الميلاد (تحديدًا سنة 27 ق.م.) بأَمر من القائد الروماني ماركوس أَغريبا (صهر الأَمبراطور أُغسطُس قيصر). وهو في الأَصل بُنِيَ ليضُمَّ جميع الآلهة في الديانة القديمة. لكنه، في القرن السابع، وبأَمر من بابا روما بونيفاس الرابع، تحوَّل إِلى كنيسة، وآل لاحقًا إِلى أَن يكون “بازيليك السيِّدة العذراء وجميع الشهداء”. وكلمة “بانتيون” في اللغة الإِغريقية تعني “لِـــجميع الآلهة”. وهو بقي في هذا المفهوم حتى القرن السادس عشر حين تحوَّل إِلى ضريح جَماعيّ للرجال العظماء، فضَمَّ رفات الرسام رافاييل (1483-1520)، والملك فيكتور عمانوئيل الثاني (1820-1878)، وسواهما كثيرين، وفق نظريةِ أَنّ مكانًا مكرَّسًا لعبادة الآلهة جديرٌ أَن يكون أَيضًا لتكريس الرجال العظماء، كما بازيليك “سان دنيس” في باريس، ودير “وستْمِنْسْتِر” في لندن.

القُبَّة المثلَّثة من الخارج…

… إِلى باريس

بهذا المفهوم القديم في العاصمة الإِيطالية، انتقل “البانتيون” إِلى العاصمة الفرنسية في القرن الثامن عشر، بدءًا من بنائه في الأَصل كنيسةً تضمُّ رفات “القديسة جنفياف” حتى تَحَوُّلِهِ، منذ الثورة الفرنسية (1789)، موئلًا للرجال العظماء الذين بأَعمالهم الجُلَّى طبَعوا التاريخ الفرنسي، باستثناء العسكريين الذين خَصصت لهم فرنسا “البانتيون العسكري” المعروف بالــ”إِنڤاليد”.

موقع البانتيون هو في الدائرة الخامسة من العاصمة الفرنسية، مبنيٌّ على الطراز الكلاسيكي المحْدَث، في قلب الحي اللاتيني الشهير، على تلة القديسة جنفياف، في شارع سوفلو (اسم مهندسه الأَول) الممتد حتى حديقة اللوكسمبورغ.

تم بناءُ واجهته شبيهةً بواجهة “بانتيون” روما. وفي تقريرٍ بعد الثورة الفرنسية (تحديدًا سنة 1791) أَنْ تعدَّدَت خياراتُ اسمه في البداية بين “الرُواق” و”صرح الرجال العظماء”، و”البازيليك الوطني”، و”الضريح” و”ضريح العظماء”، لكنّ اسم “البانتيون” غلب في الاختيار تيَمُّنًا بالتقليد الروماني القديم في تكريم العظماء، فاستقرَّ المعنيون على هذا الاسم ولو أَنه إِيطالي المصدر. وإِذ وُجِدَ سابقًا في باريس مبنى بهذا الاسم (كان مسرحًا للترفيه في اللوفر)، تم تعديل هذا الأَخير إِلى “مسرح الفودفيل” (أَي “الترفيه الشعبي”)، وبقي الاسم للمبنى المهيب موضوع هذا المقال.

تفاصيل المبنى

طولُه 110 أَمتار، وعرضُه 84 مترًا. واجهتُه الحالية ذات رواق قائم على أَعمدة كورنثية ضخمة، يعلوه مثلَّثٌ على جبينه عبارةُ “الرجال العظماء تعترف بفضلهم الأُمَّة”. ورمزُ المثلَّث: في الوسط يعني الأُمَّة التي تمنح الحرية، إِلى يمينه حمايةُ العلم والعلماء والفلاسفة (فولتير، جان جاك روسو،…) والكُتَّاب (كورناي، فِنِلون، …)، والفنانين، وإِلى يساره حمايةُ التاريخ (بونابارت وآخرون) وطلاب معهد البوليتكنيك. وتعلو الواجهةَ قُبَّةٌ تعلو 83 مترًا.

هذا في الأَعلى، أَما في الأَسفل تحت الأَرض فسرداب طويل على مساحة المبنى يحوي أَربع صالات كبرى لها نوافذ للنُور والهواء، يتم الدخول إِليه من صالة رئيسة ذات أَعمدة تاجية تليها قاعة كبرى مستديرة تتسع لنحو 300 مقعد.

… والقُبَّة من الداخل

قواعدُ البناء

المهندس الأَول كان جاك جيرمان سوفلو Soufflot (1713-1780)، وهو وضع سنة 1756 تصميمًا لكنيسة ذات قبَّة، وأَربعة أَجنحة متوازية الطول والعرض، قيل إِن سوفلو راعى فيه أَحد أَجمل قواعد الهندسة أَي: رشاقة المبنى القوطيّ ومهابة الهندسة الإِغريقية، وكذلك – للمرة الأُولى – راعى حسابات القُدرة الاحتمالية لمواد البناء، فغرَس في كل حجرٍ قضبانًا حديدية تضمن تحمُّلَ الحجارة كلَّ ما قد ينجم عن عوامل الطبيعة. وهكذا خرج التصميم جامعًا هندساتٍ قوطيةً وبيزنطيةً وإِغريقيةً، في انسياب جمالي متَّزن، هو الذي جعل الخبراء يسمُّونه الأُسلوب النيوكلاسيكي (أَو الكلاسيكي الـمُحدَث).

كانت العقبةُ الأُولى للمشروع إِيجادَ التمويل، فكانت البداية بإِطلاق ثلاث جوائز يانصيب شهرية ما جمَع في المحصِّلة 400 أَلف فرنك قديم. أَما الأَرض فاتُفق على أَن تكون في القسم الجنوبي من حديقة دير القديسة جنفياف، وبدأَت الأَعمال سنة 1758. لكن المبلغ المتوفِّر لم يؤَمِّن إِلَّا مصاريف أَساس البناء لأَن البقعة كانت مجموع آبار كبيرة محفورة قبل 1600 سنة لاستخراج الفخَّار.

أَخيرًا، في 6 أَيلول/سبتمبر 1764 وضعَ الملك لويس الخامس عشر حجرَ الأَساس لــ”بناء كنيسة القديسة جنفياف” في احتفال رسمي كبير، وتواصَل العمل فيه فعَلَتِ الجدران سنة 1769، وانتهى بعدها بناء العُقُود والقناطر.

غير أَن مواصلة البناء لم تمرّ بدون إِشكالات واعتراضات قاسية.

ما الذي جرى؟

وكيف عاد العمل في البناء؟

هذا ما أَسرده في الجزء الثاني من هذه الثلاثية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُرُ هذا النص في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى