الصَفقَةُ السعودية – الإيرانية هي تَحذيرٌ من محمد بن سلمان لواشنطن
كابي طبراني*
جاءت الأخبار التي تُفيدُ بأن السعودية وإيران قرّرتا إعادة العلاقات الديبلوماسية في حفلِ توقيعٍ استضافته الصين، في العاشر من آذار (مارس) الجاري، وكأنها صاعقة، حيث أذهلت المراقبين وفاجأت صنّاع القرار في جميع دول العالم. من المعلوم أن الخصمَين القديمين كانا على مدى السنوات العديدة الماضية مُنخَرِطَين في محادثاتٍ استكشافية اكتسبت زخمًا قبل بضعة أشهر. لكن هذا لم يكن الإعلان الذي كان مُتَوَقّعًا في هذه اللحظة.
بدلًا من ذلك، كان الكثيرون يُراهنون على اختراقٍ ديبلوماسي مُختَلفٍ من نوعٍ آخر يشمل المملكة العربية السعودية، وهو اختراقٌ من شأنه أن يُمثّلَ النهاية الرسمية لخلافٍ آخر طويل الأمد. قبل 24 ساعة فقط من إعلان التقارب بين طهران والرياض رسميًا، ذكرت صحيفتا “وول ستريت جورنال” و”نيويورك تايمز” أن السعودية عرضت تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل تنازلاتٍ من الولايات المتحدة.
مثل هذه الصفقة، كما أعلنت صحيفة نيويورك التايمز بدون مبالغة، “يمكن أن تؤدي إلى خلط الأوراق وإعادة تنظيم وتشكيل رئيسة للشرق الأوسط”، مع مَنحِ الرياض الرئيس الأميركي جو بايدن، “فرصة للتوسّط في اتفاق دراماتيكي وتاريخي”.
في صباح اليوم التالي، تبيَّنَ أن عملية إعادة التنظيم الرئيسة كانت شيئًا مُختلفًا تمامًا، حيث لعبت الصين بدلًا من الولايات المتحدة دور الوسيط المحوري. وبذلك، ظهرت بكين كلاعبٍ مُهِمّ في منطقةٍ مارست فيها واشنطن هيمنةً ديبلوماسية لا جدال فيها منذ نهاية الحرب الباردة.
بعيدًا من السؤال حول ما إذا كان اتفاق طهران والرياض سيُنَفَّذ أم لا، وسيُعالج حقًا التنافس المُتجذّر بينهما، أو سيساعد على تهدئة الصراعات المتعدّدة التي تغذّيها الخصومة في الشرق الأوسط، هناك سؤالٌ مهم آخر حول أهمية هذا الحدث الديبلوماسي: هل يشير إلى تحوّلٍ استراتيجي تبتعد فيه المملكة العربية السعودية من تحالفها الطويل الأمد مع الولايات المتحدة إلى تحالفٍ مع الصين، المنافس الذي يقلق واشنطن كثيرًا اليوم؟
الجواب ليس بالضرورة.
عندما وافق ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، على إعادة العلاقات الديبلوماسية مع إيران والسماح للصين بتسهيل الصفقة، كان يتبنّى تكتيكًا ظهر كثيرًا خلال الحرب الباردة، عندما تنافس الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم من أجل ولاء كل دولة تقريبًا. في عودةٍ للألعاب الإستراتيجية التي كانت تُمارَس في تلك الحقبة، كان يلعب قوة عظمى ضد الأخرى.
عندما يقترن الاتفاق السعودي-الإيراني بالتسريبات حول مطالب الرياض لإعادة العلاقات مع إسرائيل، فإنه يحتوي على رسالة -تحذير، حتى- لواشنطن.
يمكن لولي العهد السعودي أن يرى بسهولة كيف أن التنافس مع الصين أصبح باطراد المحور الرئيس للسياسة الخارجية الأميركية. يبدو أن واشنطن قد تكون تتمحور نحو آسيا، كما يبدو أن بن سلمان يقترح، ولكن إذا أدارت ظهرها للسعوديين، فيمكن للمملكة أن تنحاز إلى بكين.
ولكن هذا لم يحدث حتى الآن. الاختراق الديبلوماسي بين السعودية وإيران هو بلا شك فوز لرئيس الصين القوي، شي جين بينغ، وهو بالتأكيد يسلط الضوء على علاقات بكين الوثيقة مع كلٍّ من الرياض وطهران. لكن هذا لا يعني بعد أن المملكة قد تخلت تمامًا عن علاقاتها مع الولايات المتحدة، والتي استمرت لعقود، مهما كانت متوترة في بعض الأحيان بسبب الخلافات الحادة في الأمور المهمة.
لا يزال من الممكن أن يحدثَ تحوّلٌ سعودي إلى الصين. لكن بالحكم على الصفقة المقترحة من المملكة مقابل التطبيع الديبلوماسي مع إسرائيل، فإن هذا ليس ما يريده محمد بن سلمان.
من المؤكد أن العلاقات السعودية مع أميركا قد تدهورت بشكلٍ كبير في السنوات القليلة الماضية. فقد دخل البلدان في أزمة بعد قيام فريق سعودي بقتل وتقطيع أحد معارضي الرياض الصحافي جمال خاشقجي. لكن حتى في الوقت الذي طالب بعض أعضاء الكونغرس بخفض مستوى العلاقات، رفض الرئيس آنذاك دونالد ترامب الانتقادات المُوَجَّهة للأمير، مُشكّكًا في تقييمات المخابرات الأميركية بشأن تورّطه في اغتيال خاشقجي. بدلًا من خفض مستوى العلاقات، فقد وثّق ترامب العلاقات الأميركية مع الرياض والتي طوّرها بجدٍّ منذ الأيام الأولى لرئاسته.
هدأت العلاقات بعد ذلك بشكل كبير بعد أن أصبح جو بايدن رئيسًا. كمرشح، انتقد بايدن المملكة العربية السعودية، وتعهّد بمعاملتها كدولةٍ منبوذة، وهو تَعهّدٌ أعلنه ليُرضي الجناح اليساري في الحزب الديموقراطي خلال الانتخابات التمهيدية الرئاسية. بعد ذلك، عندما تم استهداف السعوديين بضربات صاروخية من قبل الحوثيين اليمنيين المدعومين من إيران في آذار (مارس) 2022، كان رد الولايات المتحدة بطيئًا بشكلٍ مُخَيِّبٍ لآمال الرياض.
كانت العلاقة بين واشنطن والرياض دائمًا علاقة تبادلية، مَبنيةً على اتفاقيةٍ متبادلة توفّر بموجبها الولايات المتحدة للسعوديين الأمن، وفي المقابل، تضمن المملكة العربية السعودية إمدادات ثابتة من النفط بأسعار معقولة. ولكن بعد أشهر فقط من الهجمات الصاروخية في العام الفائت، طلب بايدن من محمد بن سلمان فتح الصنابير في محاولة لخفض أسعار النفط والغاز المرتفعة قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، والذي جاء بمثابة توبيخ واضح، لذا رفض الأمير الطلب.
الآن، يضغط محمد بن سلمان ضمنيًا على الولايات المتحدة لاتخاذ قرار. هل ستلتزم بالضمانات الأمنية التي كانت في صميم العلاقات الأميركية-السعودية منذ أيام الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت، أم هل تحتاج الرياض إلى البحث عن أصدقاء في مكان آخر؟
يرى بن سلمان بلا شك بعض المزايا في العلاقة مع بكين، ومن الواضح أنه يحب فكرة وجود اختيارات. ولكن في جميع الاحتمالات، فإنه يفضل راحة البال من تعهّدٍ موثوق بالحماية من الولايات المتحدة بدلًا من أيِّ ضمانات من أصدقائه الصينيين الجدد وغير المُختَبَرين.
الميزة الرئيسة للتوجّه إلى شي جين بينغ هي أن بكين لا تهتم بانتهاكات حقوق الإنسان. لن يصف شي المملكة العربية السعودية أبدًا بأنها منبوذة على أساس كيفية تعاملها مع مواطنيها، في حين أن الولايات المتحدة لن تتوقف أبدًا عن الشكوى من حقوق الإنسان.
ومع ذلك، تظل أميركا أقوى قوة عسكرية في العالم. كما أن دعم واشنطن لأوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي يبعث برسالة طمأنة لأصدقائها.
بالنسبة إلى بايدن، تُمثّلُ المناورة السعودية معضلة موجعة، خصوصًا إذا كان، كما هو متوقع، يريد الترشح لإعادة انتخابه.
لا تزال العلاقات مع المملكة العربية السعودية في الولايات المتحدة مثيرة للجدل، ولا يزال الكثيرون في الحزب الديموقراطي يرغبون في خفض مستواها. بالإضافة إلى ذلك، فإن المطالب السعودية للسلام مع إسرائيل – وضمنًا، لإصلاح العلاقات مع واشنطن – هي مطالب صعبة. بالإضافة إلى الضمانات الأمنية من واشنطن، أفادت معلومات إن ولي العهد السعودي يطالب أميركا بتطوير برنامج نووي مدني وقيود أقل على مبيعات الأسلحة. يشعر المراقبون بالقلق من أن البرنامج النووي السعودي المدني يمكن أن يكون الخطوة الأولى نحو تطوير أسلحة نووية، وإطلاق العنان لسباق تسلح نووي محموم في الشرق الأوسط يمكن أن يؤدي إلى تصعيد مخاطر العديد من الصراعات في المنطقة. بعد كل شيء، الاتفاق الديبلوماسي بين المملكة وإيران بعيد كل البعد عن ضمان السلام، والأحداث في الشرق الأوسط، كما رأينا للتو، تميل إلى اتخاذ منعطفات مفاجئة في اتجاهات غير متوقَّعة.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani