ظل الحرير
رشيد درباس*
يُقاسُ البرجُ بظلّهِ، والحكيمُ بكثرةِ حسّاده
حكمة صينية
لو كنتُ مولودًا لعائلةٍ غير سِنِّيَّة لما تغيَّرَ حرفٌ من هذا المقال، فأنا لا أُقدِّم مقاربة طائفية بل أتوخّى التصدّي للمشكلات بتسميتها بأسمائها بعيدًا من التورية والتلميح والإبهام. بل لعلّني موقنٌ بأن لبنانيين كثرًا من مختلف الطوائف والمذاهب والمناطق يشاركونني ما أذهب إليه.
أُسارعُ إلى القول إن دولة لبنان استحقت اسمها منذ التأسيس، وحافظت عليه بصمودها طوال مئة عام من الهزات والأزمات والحروب المختلفة؛ فرُغمَ التنافس الطائفي والمذهبي والتحصّن في مناطق جغرافية هنا وهناك، كنتُ أرى بما لا يدعو إلى الشك أن الدولة اللبنانية بحدودها وتشابك المصالح فيها وتكاملها ومؤسساتها الاجتماعية والمصرفية والاقتصادية والقضائية والدستورية والتعليمية والصحية، كانت ولا زالت تُشكِّلُ قاسمًا عامًّا لا تملك أية فئة أن تتنصّلَ منه، ولذلك يقتضي التذكير بأنه في عزِّ القتال الدامي، جاء مَن يزرع أعمدة النور بين المتاريس، ثم أملى عليه التاريخ والشغف أن يستعيد مواسم العز، وينشر الحرير ظلًّا عميقًا لم يُمَزّقه استشهاد الزارع، ولم يُعَلَّقْ فَيْئه بتعليق النشاط.
بعد هذا أسمح لنفسي أن أوافق مؤقتًا على أن الأزمة المستعصية والعالقة في عنق زجاجة اختيارِ رئيسٍ للجمهورية، هي أزمة تأخذ شكلًا طوائفيًّا يعفُّ عن تسميتها معظم رجال الدين ولا يتورّع على النفخ فيها معظم رجال السياسة.
وعلى هذا، فلا مجال للمقارنة بين الفراغ الرئاسي الذي أعقب نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان والفراغ الراهن، ذلكم أن حكومة تصريف الأعمال تتعرّضُ لأشنع حملة طائفية تؤجج الغرائز تداركًا لشعبيةٍ ضائعة وزعامةٍ متوهّمة؛ ولقد أدى هذا إلى انكشاف الوضع على حَوَلٍ سياسيٍّ خطير جعل من رئاسة الحكومة بصفتها المركز السنّي الأوَّل، محطّ اتهام بالسيطرة على السلطة وعلى صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني وعلى التسبّب باختلال التوازن الوطني.
لا يفوتنا أن مُدَّعِي الخشية على صلاحية الرئاسة الأولى ما أعاروا أذنًا واعية لكلِّ ما كُتِبَ من دراساتٍ قانونية ودستورية من قبل فقهاءٍ مُتنوِّعي الانتماء الطائفي حول فصل السلطات وتداخلها، لأن التوغل في لعبة التعطيل الدستوري لا علاقة لرئاسة الحكومة به، ولا للطائفة السنّية، ساسةً وأبناءَ، لكن الغريزة تطغى على التبصّر عندما يطول العزف على وترها طوال الثواني والدقائق والشهور والسنوات.
لا ننسَ أن وزير الخارجية سابقًا الأستاذ جبران باسيل دخل مرة على مجلس الوزراء، وألقى خطابًا مكتوبًا قبل بدء الجلسة وأمام العدسات التلفزيونية وبدون إذنِ رئيس الحكومة شَنَّ فيه هجومًا عنيفًا على الرئيس تمام سلام مُتَّهمًا إياه بأنه يَغتصب سلطات رئيس الجمهورية، وكأنّما هذا النغم المُستعادَ الآن صالح كلّما دعت الحاجة وأعيتِ الحيلةُ السياسية، ولهذا فلا بد من التذكير أن الرئيس تمام سلام كان يبدأ كل جلسة من جلسات مجلس الوزراء بالدعوة إلى انتخاب رئيس للجمهورية، وأنه خلا الرئيس ميشال عون لم يزر أيٌّ من رؤساء الحكومات القصر الجمهوري أيام الشغور. وأُذَكِّر كذلك أن الرئيس نبيه بري في تلك المرحلة دعا إلى طاولة حوار حوَّرها بعض المتحاورين عن معناها وحوَّلوها إلى منابر للمزايدات، فيما كان الرئيس سعد الحريري الذي قطعوا له آنذاك تذكرة ذهاب بلا عودة يقوم بمساعيه السرّية في الداخل والخارج من أجل الوصول إلى اتفاقٍ على مرشّحٍ للرئاسة يسدّ الفراغ الذي استطال وهدّدَ الدولة بالتصدّع، فلما أفشلوا محاولته الأولى بانتخاب سليمان فرنجية، كانت له اليد الطولى في انتخاب الرئيس عون سابحًا بذلك عكس تياره وعكس أكثرية من الشعب اللبناني.
أردتُ بهذا أن أؤكّد أن اتهامَ الطائفة السنّية بالسطو على رئاسة الجمهورية هو اتهامٌ متهافت، لأن السنين القليلة الماضية أثبتت عكس ذلك، أما في هذه الأيام فكيف لها أن تسطو على أيٍّ من السلطات، فيما هي تعيش حالة غير مسبوقة من ضبابية الرؤية وانعدام الوزن. وبصورة أوضح فإن مسؤولية تعطيل انتخاب رئيس مردُّه الاستقطاب المسيحي الواضح والموقف الشيعي المضمر، فيما يتوزّع بعض نواب السنّة على انتخاب أسماء نافية للدلالة بما يُقلّل من هيبة الرئاسة وجدية النواب المُقترعين.
أوَلَا يستدعي هذا أن نعود إلى أصلٍ يجري تجاهله أو إغفاله أو تناسيه، هو أن المرجعية السنّية في حالة التباسٍ وتخبّطٍ وتهميش؟!
لا أقصد من هذا المقال إجراء جردة حساب لمسيرة زعامة سعد الحريري منذ استشهاد والده حتى بيان تعليق نشاطه ونشاط تياره السياسي، فلقد كُتِبَ في هذا كثير، ووُجِّهت انتقاداتٌ مُرَّة لخياراته، بل إن عددًا مهمًّا من نوابه وعلى رأسهم رئيس الكتلة فؤاد السنيورة لم يطاوعه في انتخاب الرئيس عون؛ يُضافُ إلى ذلك ما تعرّض له من ابتزازٍ في تشكيل الحكومتين، ثم في عرقلة تأليف الثالثة. هذه أمورٌ أصبحت من الماضي، يمكن أن نتعظ منها كي لا نقع في مثلها مستقبلًا، لكن الإشكالية التي أطرحها الآن تتناول موقف الرئيس الحريري الغامض وما تركه من تداعيات.
لقد كنتُ من الذين خالفوا الرئيس الحريري في بعض خياراته، سيّانِ أكان ذلك بالحوار الخاص أم بالكتابة العلنية؛ لكن الإنصاف يقتضيني الآن أن أشهدَ بأنه يكاد يكون فريدًا بين الزعماء والسياسيين الذين مارسوا النقد الذاتي بالفعل لا بالقول، أي بالانسحاب، وهنا تستفحل المشكلة ويتوجب طرح الأسئلة المباشرة الخالية من التجميل والمجاملة:
- هل كان انسحابه “ظرفيًّا” أو ذاتيًّا أو مختلطًا بين هذا أو ذاك؟
- إن كلَّ تعليق في القانون، مرهون بتحقق شرط أو حلول أجل، فهل للرئيس الحريري أن يُحدِّدَ الشرط أو الأجل اللذين رَهَنَ بهما تعليقه العمل السياسي حتى لا تكون فتنة في الناس؟
- اعترضت قيادات مستقبلية كثيرة على خيارات الرئيس الحريري من غير أن تُحْدِثَ انشقاقًا تنظيميًا، كما تصدَّت قياداتٌ أخرى له، وحمّلته مسؤولية تدهور الطائفة السنّية وتضعضعها، وراهنت على بزوغ بدائل تحل محله، فهل أسفرت الانتخابات عن تَكَوُّن مثل تلك رُغمَ خلوِّ الساحة؟
- عَزَلَ الرئيس الحريري نفسه بشكلٍ شبه كامل عن التعليق على الأحداث السياسية، وعزل عنه اتصالات مُحبّيه وأصدقائه ومؤيديه، وانسحب بشخصه وتياره، فهل استطاع أن يسحب ظله وراءه؟ وهل يجوز أن يكون هذا الظل الباقي الممتد صامتًا ومَرتعًا للخفاش والغراب ونعيب البوم؟ هل كل مَن يدّعي وصلًا بالحريرية يحمل الشهادات المؤهّلة والتجربة الناجحة التي تجيز له صحّة التمثيل وإضفاء أصلٍ جديدٍ على ظلٍّ عريق؟
طرحتُ هذه الأسئلة لأستنتج أنه طالما بقيت الحالة السياسية للرئيس سعد الحريري مُلتَبِسة رُغمَ تمسّك منصة رؤساء الحكومة السابقين بدوره، فإن الحالة السنّية العامة ستزداد التباسًا، بعد أن اتسع الحقل المغناطيسي، سواء كان ذلك في الانتخابات النيابية أو في الخطاب السياسي أو في الأداء الوطني. بمعنى آخر، إن مَن وقعت عليه المسؤولية عقب الرابع عشر من شباط (فبراير) ما زال مُرتبطًا بعقدها وموجباته، لأن مئات الآلاف التي أحبطت نتائج اغتيال والده الشهيد، وتسببت بخروج الجيش السوري، لم تُولِ ثقتها القاطعة حتى الآن لمرجعياتٍ أخرى، رُغمَ أن الأخطاء والخطايا والهفوات هي مدعاة محاسبة لا انسحاب، فإذا كان لا بدَّ منه ولا ردَّ له فلا بد إذًا من تنظيمه واللطف فيه.
خلاصة القول أنه لن يطول الزمن الذي سيعود فيه الاعتبار إلى تركيبة الدولة المدنية واتحاد اللبنانيين حول مصالحهم بغض النظر عن طوائفهم، وإن كانت المرحلة القائمة تأخذ شكل تموضع الطوائف التي تتمترس خلف حقوقٍ دستورية كاذبة، فالحقُّ الدستوري للوطن وليس للطائفة، وإذا كان ثمة حلّ مؤقتٌ أو طويل المدى، فإنه لن يُنجَزَ إلّا بوجودٍ متوازن للطوائف كلّها، ولنا في الاتفاق الثلاثي مثل، وفي انتخابات 1992 مثيل، ولنا أيضًا من الشهداء رياض الصلح وحسن خالد وصبحي الصالح ورشيد كرامي وناظم القادري ورفيق الحريري ووليد عيدو ووسام الحسن ووسام عيد ومحمد شطح وسواهم، أمثال صارخة على التمسّك بدولة لبنان الكبير.
لقد قدّمت الطوائف شهداءها فلا فضل لواحدة على الأخرى، بل فَضْل لبنان عليها جميعها لأنه قدم أبناءه شهداءَ من جميع الطوائف ولها وعنها، فإذا ما أيقن المتصارعون بأنَّ الأوان آن ليقف هذا الصراع العبثي عند حده، خَلَّوْا وراءهم عنعناتهم وضيق آفاقهم، وذهبوا إلى دولة تدين (على الأقل) بمذهب كهربائي واحد لا يشتت نور الله ولا يمنع شعاعه عن عباده، ولا يترك المواطنين في ظلمة أو في حَيْرة سياسية دامسة. وكما في لحظةٍ مُعَيَّنة اتّحدت المصالح المائية فترسّمت الحدود مع العدو بوساطة “الشيطان الأكبر”، لا بد أن تكون هناك لحظة اتفاق على كهربة لبنان برئاسة فعّالة ونشطة تُوَحِّدُ أسلاكه وتؤشّر على بصيرة جديدة تحل محل العمى السياسي المزمن.
إنني لا أُقلّل من شأن مَن قدّمَ نفسه بديلًا بل أتمنى له النجاح؛ وأنا لا أنطق بلسان الحنين إلى مواسم العز التي كان فيها رفيق الحريري يبني فوق الركام وينير البيوت بتعليم الأولاد ويضخّ الأمل في كل نفس، لكنني أتمنّى على مَن حمل الأمانة الثقيلة أن يعودَ إلى أهله بالشكل الذي يرتضيه، قائدًا أو صديقًا أو مواطنًا يشاركهم حبهم إليه ويَطَّلِع على ما هم عليه أو “سعدًا” مُجرّدًا من الألقاب ومُحاطًا بالأحباب، لأنه يتوجّب دمل الجروح بعد إخراج الصديد ومعالجة الإلتهاب، وعدمُ السماح بإقامة بنية ناقصة لعنصر من أهم مكوّناتها، كان ولم يزل عمودًا أساسًا في هيكل دولة لبنان الكبير.
لسنا ندري أين موقع لبنان في جدول المساومات الخارجية وبالتالي لا نُعَوِنلِنَّ على حل جاهز مستورد، وإنما التعويل كل التعويل على تسوية وطنية داخلية بعد أن أمعنّا في تفجير أنفسنا خدمةً لصراعاتٍ خارجية خسرنا فيها زهرة الشباب وأجمل الفرص وأطيب السمعة التي بنيت على تجربتنا الفريدة.
إن من يقرأ المواقف التي تتحدث عن الاستعداد للانتقال إلى الخطة (ب) في معركة الرئاسة، ومن يُدقّق في خطاب الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، الذي استبعد فيه ربط انتخاب الرئيس بتوافق خليجي-غربي-إيراني، يخلص إلى أن إمكانية التوافق الداخلي مُتاحة (بإجازة خارجية طبعًا)، وذلك بالتوصل إمّا إلى تصوّرٍ مُشترك للمرحلة المقبلة يُنْتَخَب لها رئيس، أو إلى الاتفاق على شخصٍ يتوسّم فيه الفرقاء إمكانية رسم هذه المرحلة، وذلك على قاعدة إعادة الاعتبار إلى النصوص والأعراف الدستورية ووضع حدٍّ لدولة الفساد والإفساد، وإخراج لبنان من تجاذبات المحاور العقيمة، ليستعيد حيويته الاقتصاية من خلال استعادة حسن العلاقة مع أشقائه العرب من دون الانغماس في نزاعاتٍ أكيدة الأذى وعديمة المنفعة.
إن قرنًا من عمر الدولة كفيلٌ بكَسرِ قرنِ الفتنة.
- رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).