الوَحِي إن هَبَط
راشد فايد*
كلُّ كلامٍ من السياسيين على رفضِ التدخّلِ الخارجي في انتخاب رئيس الجمهورية الجديد ليس سوى دخان تعمية على الوقائع الحقيقية المعروفة منذ إعلان الاستقلال ورفع الانتداب الفرنسي عن لبنان.
لم ينكفئ هذا التدخّل المُتعدّد، والمرذول لفظيًا، سوى عندما قايض الرئيس السوري حافظ الأسد وحدانية وصايته على لبنان، بتركه يبسط سطوته عليه وعلى القرار الفلسطيني لا سيما بعد الإجتياح الإسرائيلي لمشاركة في تدمير العراق بحجة أميركية كاذبة هي امتلاك بغداد أسلحة دمار شامل فكانت الوصاية السورية “المباركة” دوليًا وعربيًا، حتى باتت دمشق البوابة الإلزامية لأي تعاطٍ مع لبنان، لترتيباتٍ لا علاقة لها بأيِّ قرارٍ محلّي. يومها تآمر المحيط، بكل فرقائه، عربًا وعجمًا، لتولية الأسد قرار لبنان وشؤونه، فاستساغ بعضهم الأمر، واصطفاه “الوالي”، ورفضه بعض آخر، فاحمرّت العين عليه، بينما بعض ثالث سلّم الأمر للأقدار.
انصرف لبنان، الخارج من بشامون بالإستقلال، في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1943، إلى تأسيس دولته، في أجواءٍ ديموقراطية رانت عليه حتى العام 1951، موعد ما سُمِّيَ الثورة البيضاء. فالإرتياح الشعبي إلى الاستقلال، كان، أيضًا، ارتياحًا إلى عهد بشارة الخوري، سمح له بتجديد عهده ولاية ثانية، في 1949، لكن اللغط عن الفساد والرشوة والمحسوبية وحكم العائلة، أتاح قيام جبهة معارضة متنوّعة الإتجاهات، توَّجت تحرّكها بمهرجانٍ في دير القمر، أتبعته بإضراب عام، فاستقال الشيخ بشارة بعد أسبوع، وانتُخِبَ كميل شمعون رئيسًا للجمهورية بعدما انسحب له حميد فرنجية، تحت ظلال صراع فرنسي- بريطاني في المنطقة.
ما هي إلّا 4 أعوام حتى وقع العدوان الثلاثي على مصر، ودعا الرئيس المصري جمال عبد الناصر العرب والأصدقاء إلى مقاطعة فرنسا وبريطانيا، فانقسم اللبنانيون حُكمًا وشعبًا، ومع هدوء أزمة السويس، هدأت حال لبنان، لكن كالنار تحت الرماد، إذ دخلت المنطقة زمن الناصرية وصراعها مع حلف بغداد، الذي، تبعًا له، تصاعد الوضع اللبناني وانفجر في العام 1958. ولليوم لم تُحسَم التسمية: هل ما حدث كان ثورة أم تمرّدًا وعصيانًا؟
استمرت الأحداث 3 أشهر، وشكلت أول دخولٍ للبنان على سياسة المحاور العربية، وآلت إلى انتخاب اللواء الأمير فؤاد شهاب رئيسًا، بعد تفاهم أميركي-غربي-مصري، لكن ذلك لم يمنع أن يشهد رأس سنة 1961-1962 أول محاولة إنقلاب عسكري-حزبي في لبنان، استمرت 12 ساعة، وأدت إلى إحكام سيطرة العسكر على السلطة، لا سيما في عهد الرئيس شارل حلو، الذي جاء من عباءة الشهابية، في ظروف التفاهم نفسه الذي أوصل شهاب قبله إلى الرئاسة.
على العكس من العهد الشهابي الأول، شهد عهد حلو تكريس الإنقسام السياسي، بين “الحلف الثلاثي”، ذي القاعدة المسيحية، وبين “جبهة الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية”، وبات لبنان ساحة رجع الصدى لأزمات المنطقة، وأوجها صدامات الجيش الأردني مع المقاومين الفلسطينيين، الذين تسلّلوا إلى لبنان عبر سوريا، بتشجيعٍ من الأسد لغاياتٍ في مخططه للسيطرة على “الساحة اللبنانية” و”الورقة الفلسطينية”. ولم تحل دون ذلك صداقته مع الرئيس، حينها، سليمان فرنجية، الذي يُمكن القول أن الظروف الداخلية، و”اللوم” السوفياتي على فضيحة طائرة الميراج انتخبته، كون القوى الفاعلة، إقليميًا ودوليًا، كانت مُنشَغِلة بشؤونها، وأساسها بعد وفاة عبد الناصر.
عام 1976، حل سليل الشهابية، الياس سركيس في رئاسة الجمهورية، في ظلال قوات الردع العربية، تسميةً، والسورية غالبًا، وبتفاهم أميركي-سوري، وبعده حل بشير الجميل في الرئاسة، في ظل الإجتياح الإسرائيلي، واغتيل قبل تسلم مهامه، وانتُخِبَ بديلًا منه شقيقه أمين، بالظروف ذاتها، مع عودة الدور السوري، عبر ضغوط حلفائه داخليًا، قبل أن يعود جيشه، رسميًا، إلى لبنان، ويعود قراره حاسمًا في المجيء بالرؤساء، بعدما اغتيل الرئيس رينيه معوض في ذكرى الإستقلال، لتتجدّد الهيمنة السورية تحت صور الرؤساء الياس الهراوي، واميل لحود، لتتغطّى، بعد إخراجها بدماء شهداء ثورة الأرز، بالحزب المُسَلَّح، الذي رأّس ميشال سليمان ثم ميشال عون، وبعد الأخير الفراغ.
دور الخارج في انتخاب الرئيس لا يكون بتسميته مباشرة، فلغة الإيحاء، في بعض الظروف، وهي كثيرة، أقوى. وكان بين السياسيين مَن يقول:”الوحي هبط”، أو “لم يهبط بعد”.
- راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).