فرنسا الغاضبة من “حليفها” الأميركي!

محمّد قوّاص*

بات صعبًا إخفاء شقوق التباين في علاقات فرنسا والولايات المتحدة هذه الأيام. وما يظهر يتناسل من سياقٍ تراكمي في العلاقات التاريخية بين باريس وواشنطن والتي اتسمّت دائمًا بتمرّدٍ فرنسي على الحليف الكبير منذ شارل ديغول حتى إيمانويل ماكرون. لكن ما تغيّر هو طبيعة الصفعات التي باتت الولايات المتحدة تُسَدّدها من دون خجل إلى فرنسا ومصالحها في العالم.

آخر تلك الحلقات من مسلسلٍ طويل جاء في حالة النيجر. توقّعت باريس أن تتّخذَ واشنطن موقفًا حاسمًا في إدانة الانقلاب العسكري الذي جرى في 26 تموز (يوليو) الماضي ضد الرئيس المٌنتَخَب محمد بازوم. قامت توقعات فرنسا على اعتباراتٍ ثلاثة:

أوّلًا- لأنَّ الموقفَ يتّسِقُ مع مبادئ الولايات المتحدة في دعم الديموقراطية في العالم، لا سيما وفق خطاب الرئيس الديموقراطي جو بايدن بالذات.

ثانيًا- لأنَّ الموقفَ سيكونُ موقفًا طبيعيًا داعمًا للموقف الذي اتخذته المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس).

ثالثًا- وهذا الأهم، لأنه يمثّل دعمًا لمصالح دولةٍ أساسية حليفة للولايات المتحدة مثل فرنسا.

لكن إدارة جو بايدن، ولأسبابٍ تتعلّقُ بحساباتٍ جيوستراتيجية، اتّخذت خطوات أوحت للعالم وعسكر النيجر بجواز التعامل مع الحالة الانقلابية وعدم اعتبارها “حرامًا” مُطلقًا.

أرسلت واشنطن في 7 آب (أغسطس) الماضي فيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية للشؤون السياسية، أي المسؤولة رقم 3 في الوزارة،، إلى نيامي للاجتماع مع قادة الانقلاب وبحث سُبُلِ التسويات معهم. وبينما كانت سلطات الانقلاب تضغط شعبيًا وديبلوماسيًا وقانونيًا لطرد السفير الفرنسي من النيجر، قررت واشنطن التعجيل بتعيين سفيرة لها هناك في ظلِّ حكم العسكر.

لم تستسغ باريس فِعلةَ واشنطن. راجَ في فرنسا ما نُقِلَ عن وزارة الخارجية الفرنسية من أنه “مع هكذا حلفاء لا حاجة لأعداء”. وبينما كانت الأنظار تستطلع دور مجموعة “فاغنر” الروسية في انقلاب النيجر بعد أن ثبت ضلوعها، على حساب مصالح فرنسا، في انقلاباتِ مالي وبوركينا فاسو وغينيا وأفريقيا الوسطى، ظهر أن الولايات المتحدة بدأت تُمثّلُ خطرًا على مصالح فرنسا في أفريقيا، ومنافِسةً تسعى إلى حصد ثمارٍ في القارة السمراء لطالما كانت محسوبة تاريخيًا وعرفًا على النفوذ التقليدي لفرنسا.

مثّلت فرنسا دائمًا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عاملَ تعارُضٍ مع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة. سعت كل العهود الرئاسية في باريس دائمًا إلى المحافظة على استقلالية قرار فرنسا عمّا تُقرّره المنظومة الغربية بزعامة الولايات المتحدة. ذهب الجنرال ديغول في العام 1966 إلى حدّ سحب بلاده من القيادة العسكرية المُوَحَّدة لحلف شمال الأطلسي رافضًا وضع القوات العسكرية الفرنسية تحت إمرةٍ أميركية.

بقي موقع فرنسا على هذه الحال داخل “الناتو” حتى آذار (مارس) 2011 حين عادت في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي لشغل مقعدها كاملًا داخل الهيكل العسكري للحلف. ولئن اتّفقت فرنسا في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران مع الولايات المتحدة على الذهاب سويًا إلى حرب تحرير الكويت في العام 1990، إلّا أنها في عهد الرئيس اليميني الديغولي جاك شيراك رفضت الحرب ضد العراق في العام 2003 ولم تشارك في الحملة العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة.

في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سهّل على الإدارة الأميركية فرض تعرفات جمركية عالية في العام 2019 على النبيذ الفرنسي ومنتجات أخرى من دون الأخذ بالاعتبار طبيعة التحالف العقائدي والسياسي والاقتصادي والعسكري والأمني بين البلدين.

لكن الصفعة الأقوى حدثت حين استفاقت باريس في أيلول (سبتمبر) 2021 على “طعنةٍ في الظهر” سدّدتها كلٌّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حين أقامت الدولتان تحالفًا جديدًا باسم “أوكوس” مع أوستراليا أطاحا به بعقد الغواصات الذي كانت الأخيرة أبرمته مع فرنسا بقيمة 60 مليار دولار. وقد أعلنت كانبيرا تمزيق العقد مقابل عقد آخر من الغواصات التي تعمل بالوقود النووي ينتجها تعاون أميركي- بريطاني.

بدا التباعد واضحًا في بداية حرب أوكرانيا بين سعيّ ماكرون لإيجاد تسويةٍ أوروبية لإنهاء الحرب وحمل ملفات سعيه إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو. بالمقابل كان التحالف الأميركي-البريطاني يتّخذ موقفًا صقوريًا داعمًا لأوكرانيا ضد روسيا من جهة، وتمارس واشنطن من جهتها أقسى أنواع الضغط على حلفائها داخل الاتحاد الأوروبي. وقد أتت مواقف بوتين الرافضة للتسوية لتساهم في احباط خيارات باريس وضخّ جرعات مصداقية داخل خيارات واشنطن على رأس “الأطلسي”.

قبل ذلك كانت واشنطن قوّضت طموحات ماكرون، في سياق الاستقلال عن الولايات المتحدة، في إقناع الأوروبيين بإنشاءِ جيشٍ أوروبي خاص للقارة.

ذهب ماكرون لاحقًا إلى ارتكاب “المعاصي” في ملفٍ تعتبره الولايات المتحدة أولويتها الاستراتيجية بامتياز. زار الرئيس الفرنسي الصين في نيسان (أبريل) الماضي. وعاد من بكين بخطابٍ يُطالبُ الأوروبيين بأن يقاوموا “الضغوط التي تريدهم أن يكونوا تابعين للحليف الأميركي”، مُضيفًا أنَّ “أوروبا لن تستفيد من تصاعد الصراع في تايوان”، وإنَّ عليها أن تُصبحَ “قطبًا ثالثًا” مُستقلًّا عن واشنطن وبكين. وقد أثار موقف ماكرون حينها استهجانًا أميركيًا وحتى داخل الاتحاد الأوروبي.

ويضيف ملف العلاقة مع إيران تفصيلًا جديًدا إلى سياق التناقض في مصالح باريس وواشنطن. كان ماكرون قد وجّه انتقاداتٍ إلى طهران في مسألة عرقلة انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان. وقد ردّ وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من بيروت، في الأوّل من أيلول (سبتمبر) الجاري، مُنتقدًا موقف فرنسا ناصحًا رئيسها بالتركيز على شؤون بلاده الداخلية بدل التدخل في شؤون بلدان أخرى. ويرتبط موقف باريس بسعيّ واشنطن إلى إبرام اتفاقات مع إيران من وراء ظهر فرنسا والحلفاء الأوروبيين.

وكان تقريرٌ نشرته صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية في 5 أيلول (سبتمبر) الجاري قد أشارَ إلى تقاطع مصالح إيرانية-فرنسية في قطاع النفط وإلى ازدواجية معايير وبراغماتية مفرطة في تعامل إدارة بايدن مع النظام في إيران لأهدافٍ انتخابية خالصة.

وإذا ما كان التباينُ جُزءًا من سيرورة العلاقات الفرنسية-الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلّا أنَّ غضبًا بدأ يظهر في باريس جراء سياسات أميركية تعتبرها فرنسية أنانية ماكيافيلية لا تحفظّ للحلفاء مصالحهم، والتي فوق ذلك صار يشوبها نزوعًا باتجاه استهداف مصالح فرنسا بالذات ودورها المحوري داخل أوروبا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى