ستَعود بيروت إِلينا لا إِليهم
هنري زغيب*
لأَهل السياسة في لبنان، طوال الأَربعة الأَشهر المقبلة، أَن يَتوجَّسُوا (أَو يَقْلَقُوا أَو يُنَظِّروا) حيال حصول (أَو عدم حصول) انتخاب رئيس جديد للجمهورية في ختام تشرين الأَول/أكتوبر.
لنا نحن أَهل الثقافة أَلَّا نَقْلق لأَننا أَبناء الثوابت الثقافية التي بها نتباهى على أَبناء المتغيرات السياسية، فنسير صوب الشمس بأَجفان غير رجراجة، لا نتأَثر بأَزمة سياسية ولا بمشاحنات انتخابية ولا بتغييرات حكومية ولا بعنعنات نيابية. كلُّ ما جرى على المستوى السياسي والأَمني لم يمنع رسامًا من معانقة ريشته، ولا شاعرًا من مساررة قلمه، ولا موسيقيًا من منادمة نوطاته. وبيروت التي هشَّمت وجهَها سلطةٌ كذَّابة، لم تهشِّم روحَها الوثَّابة التي اعتادت أَن تَنْفضَ عن وجهها تراب دمارها وتنهضَ من جديد إِلى أَلقها التاريخي الذي لا يُطفئه دمار.
فيما “بيروتُهم” تتخبَّط بالملاكمات السياسية حتى نهاية تشرين الأَول، ها “بيروتُنا” تتهيَّأَ هانئةً مطمئنَّةً لتحضن بعد أَربعة أَشهر (في 25 تشرين الأَول/أكتوبر ولستَّة أَيام تالية) حدَثًا ثقافيًّا عالَميَّ القوس فتشهد في حناياها التصفية الثالثة والأَخيرة وتُعلن الأَربعة المرشَّحين لنيل جائزة غونكور 2022. سيأْتي ذلك في سياق “المهرجان الفرنكوفوني الدُوَلي للكتاب” وعنوانُه هذا العام “بيروتُ الكُتُب”، يتوزَّع له 50 كاتبًا فرنكوفونيًّا على 30 مكانًا في بيروت، بتنظيم من “المركز الثقافي الفرنسي في لبنان” تعاوُنًا مع ناشطي الكِتَاب الفرنسيين واللبنانيين، ريثما يتم إِعلان الفائز النهائي بالجائزة في 3 تشرين الثاني/نوفمبر. وقبلذاك كان لبنان احتفل سنة 2018 باليوبيل الفضي (25 سنة) لـــ”معرض الكتاب الفرنكوفوني” في بيروت.
هذا الأُسبوع لفَتَتْني عبارة سفيرة فرنسا آنّْ غْرِيُّو في صحيفة “الأُوريان لوجور” (20 حزيران/يونيو) أَن “الثقافة ليست ترَفًا ثانويًا ولا قطعة أَكسسوار”، وتأْكيدًا أَن العمل الثقافي عابرٌ جميعَ الآنيَّات السياسية العابرة، بلوغًا إِلى جنى الثمار المعرفية المستدامة.
في موقع “كتُب الأُسبوع” – الناشط منذ 1986 منبثقًا عن مؤَسسة “حلقة المكتبات” التي تأَسست قبل 175 سنة (1847) – قرأْتُ أَنَّ لــ”أَكاديميا غونكور” العريقة علاقةً وُثْقى مع لبنان، منذ بدأَتْ قبل عشر سنوات تتواصل مع أَعضائها والفائزين بجوائزها داعيةً إِياهم إِلى “معرض بيروت للكتاب الفرنكوفوني”، راعيةً جائزةَ “غونكور الشرق”، تلتقي لها 33 جامعة من 11 بلدًا شرق أَوسطيًّا لاختيار الرواية الفائزة في التصفية النهائية لتلك الجائزة.
هوذا ما ينتظرنا للأَشهر المقبلة في بيروت الثقافة، التي تنهض من كبواتها كما عهدناها في تاريخها الساطع منذ راحت تتوالى عليها مصائب الزلازل والحرائق والدمار قبل زلزال 555 وبعده.
هي ذي، في شخصيتها الفريدة، بيروتُنا نحن، أَهل الثقافة، بيروتُ الريادة الدائمة، بيروتُ التي أَطلقَت على منابرها الشعراء والكتَّاب العرب، وفي صالاتها التشكيلية الرسامين العرب، وعلى مسارحها المؤَلفين والموسيقيين والمغنِّين العرب…، بيروتُ التي كانت واحة الحرية التي يرنو إِليها الأَقربون والأَبعدون، بيروت التي يَسقط شهداؤُها لإِطلاق أَحيائها رافلين بإِبداعاتهم.
هي ذي بيروتُ تنفض ثوبها المحروق بآثار الرماد، وتنهض بثوب لبناني جديد تُنَصِّعُهُ الثقافة الإِبداعية في كل حقل معرفيّ.
هي ذي بيروت: عصمتُنا وعاصمتُنا واعتصامُنا ضدَّ سياسيين بيروتُهم على شاكلتهم وإِشكالاتهم ومشاكلهم. فَلْتَبْقَ لهم ولْتنطفئْ معهم حين سينطفئُون، وها بيروتُنا تعود إِلينا لا إِليهم… تعود بكامل نبْضها الثقافي المغاير فتُشرق شمسُها من الليل المالح.
ليس يكفي أَن نُحب الخالدة بيروت. الأَهمّ: أَن نَستاهلَها.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).