المُرتَزَقَةُ السوريون في أوكرانيا: بين الوَهمِ والواقع
أملت روسيا في أن تأتي موجةٌ من المقاتلين الأجانب لدعم معاركها في أوكرانيا وخصوصًا من سوريا، ولكن يبدو أن أحدًا لم يُلبِّ النداء ولم يأتِ.
بيار بوسيل*
عندما اندلعت الحرب الانفصالية في منطقة دونباس الأوكرانية في العام 2014، شهد الإقليم تدفّقًا لأعدادٍ كبيرة من المرتزقة والمغامرين والعنصريين البيض الراغبين في تقديم خدماتهم العسكرية والأمنية في الصراع الدائر. وقبل بدء الهجوم الروسي الأخير على أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، تردّدت شائعات بأن عددًا من المُتَطوِّعين السوريين يستعدّون للتوجّه إلى أوكرانيا للمشاركة في القتال لتزداد بذلك الأعداد الكبيرة للمُقاتلين الأجانب الموجودين أصلًا في المنطقة، وتزداد بالتالي التوقّعات بارتفاع نسبة مشاركة المقاتلين الأجانب في الهجوم الروسي على أوكرانيا.
وهكذا لم يكن مُستَغرَبًاً، بعد يومين من بداية الغزو الروسي، أن يوجه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، نداءً للمتطوِّعين الأجانب للانضمام إلى الفيلق الدولي الذي تم تشكيله حديثًا. وسرعان ما حظيت دعوته بدعم رئيس وزراء الدانمارك ميت فريدريكسن ووزيرة خارجية المملكة المتحدة ليز تروس التي أعلنت أن معركة أوكرانيا هي معركةٌ من أجل الحرية، ومن أجل “أوروبا بأكملها”. لكن، يبدو أن تلك التصريحات الداعمة قد انطلقت بدون تنسيقٍ مع أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) الآخرين الذين تحفّظوا في منح المتطوعين الأجانب تفويضًا شبه رسمي للانضمام إلى اللواء الدولي – كما فعلت بريطانيا والدانمارك -وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ الحلف.
على الجانب الروسي، شجّع الرئيس فلاديمير بوتين أيضًا المقاتلين الأجانب على الانضمام إلى ما أسماه بالحرب ضد النازية الجديدة، على الرغم من أن تعداد المقاتلين في القوات المسلحة الروسية يبلغ 900 ألف مقاتل ومليوني جندي احتياطي. ويبدو أن بوتين كان يسعى، من خلال دعوته تلك، إلى تحويل الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا إلى حربٍ “وجودية” ضد “المُتَطَرّفين”، وأن يَستَعرِضَ، للعالم كافة، قدرة الكرملين على حشد العالم العربي في الخندق الروسي. ولكن، باستثناء سوريا، لم تستجب الدول العربية للدعوة الروسية، ومن الواضح أن ذكرى القيود الديبلوماسية خلال الحرب الباردة والتخلّي عنها عندما سقط جدار برلين، لا تزال ماثلة أمام أعينها.
أما سوريا فقد سارعت لدعم حرب روسيا في أوكرانيا من خلال دعم المتطوّعين الذين يريدون مساندة القضية الروسية. وحرصت وسائل الإعلام السورية على غرس الشعور بالإثارة، وتأجيج الدعم الشعبي، وتشجيع المتظاهرين في الجامعات لمساعدة روسيا. ولإثبات جدية دعمها، عرضت شعبة المخابرات العسكرية 217 على المتطوعين عقدَا يشمل مزايا مادية وعينية، حيث يقدم نحو 3,000 دولار أميركي للمقاتلين المتطوعين و7,000 دولار أميركي للمقاتلين الجرحى وحصصًا غذائية لأُسَرِ المُتطوّعين. ويتضمن العقد أيضًا مبلغ تأمين بقيمة 15,000 دولار أميركي يُدفع في حال وفاة المُتَطَوِّع أثناء القتال.
في غضون أيام قليلة، شرعت وسائل الإعلام السورية الرسمية في الإعلان عن أعداد المتطوّعين التي بلغت بحسب المصادر الرسمية 40 ألفًا من المرتزقة. ولكن هذه الأرقام لم تؤكّدها أي مصادر مستقلة ولا تبدو واقعية لا سيما بعد رفض السلطات الروسية استقبال المُتَطوِّعين المدنيين السوريين الذين قدّموا أنفسهم طواعية إلى السفارة الروسية في دمشق وإلى قاعدة حميميم الجوية العسكرية.
أعلن الجيش الروسي أنه قد أوكل مهمة تجنيد المتطوعين إلى عدد من الشركاء في القطاع الخاص مثل شركة الصياد، وهي شركة لخدمات الحراسة والحماية، التي فتحت باب التسجيل في 12 آذار (مارس)، لتتلقّى نحو 30 طلبَ انضمام فقط على الرغم من توقّعها تسجيل مئتي طلب على الأقل.
وقد أشرف هاني أبو شموط، القائد السابق لفصيل لواء العهدة العمرية والذي عمل كمُتَرجم للقوات الروسية في منطقة دمشق، على تجنيد متطوعين من بلدات متعددة، بما فيها القطاع الشرقي لمدينة حمص، ولكنه لم يعلن عن نتائج جهوده في عمليات التجنيد تلك. أما نبيل عبدالله، قائد قوات الدفاع الوطني شبه العسكرية، فقد عرض الاستعانة برجاله الذين وصفهم بأنهم خبراء في القتال الحضري، ولكن الحقيقة هي أنهم غير خبراء وغير مُجَهَّزين عسكريًا ولم يتفوّقوا قط في ساحة المعركة.
الواقع أن محاولة روسيا لاستخدام المرتزقة السوريين وقودًا للمدافع التي تقاتل في المناطق الحضرية لم يكن مُقدَّرّا لها النجاح منذ البداية. فاستراتيجية موسكو التي كانت تعتمد على تدفّق المقاتلين الأجانب لتثبيط عزيمة الشعب الأوكراني، وكسر المرونة المدنية، وحرمان جيش كييف من دعمه الشعبي، كانت تعاني من تناقضاتٍ تكتيكية. ولو كان المقاتلون السوريون ضرورة حيوية لنجاح الاستراتيجية الروسية في أوكرانيا، لتحتّم على موسكو السعي إلى تجنيد مُنتسبي الجماعات المسلحة التي تدعم روسيا، مثل اللواء الثامن الذي يتألف من جنود محترفين مسلحين بأسلحة فردية، ويتقاضون رواتبهم بانتظام، ومعتادين على العمل مع الضباط الروس. ولكن روسيا لم تحاول أبدًا أن تستخدم هذه الإمكانات العسكرية المُتاحة لها.
علاوةً على ذلك، عدم خبرة الروس في قيادة المقاتلين السوريين تحت القصف، وافتقار مجموعات القتال لضباط الصف الذين يحافظون على تسلسل قيادي قوي في الميدان أثّر سلبًا على نجاح الحملة الروسية. وبينما تُتقن روسيا تمويل وتجهيز الجماعات المسلحة وقصف المدن، إلّا أنها لا تعرف كيفية تنسيق العمليات على الخطوط الأمامية مع القوات المساعدة والاستفادة من المُجنّدين السوريين في أداء المهام البسيطة مثل الحراسة، والمناولة، والتنظيف بتكلفة أقل للجيش الروسي.
على الرغم من جهود التعبئة التي قامت بها حكومة دمشق وشركاؤها في القطاع الخاص، فقد فشل هدف روسيا في إغراق أوكرانيا بالمقاتلين الأجانب. وأكّدَ الجنرال كينيث ماكينزي، الرئيس السابق للقيادة المركزية الأميركية، أنه لم يكن هناك تدفقٌ للمقاتلين السوريين في هذه المرحلة، فأولئك الذين تطوّعوا لا يُحقّقون التأثير المطلوب، ومهاراتهم العسكرية ضعيفة بشكلٍ عام، وهم في الغالب مدفوعون بالمال. وهكذا، بقيت الجماعات المسلحة ذات الخبرة الواسعة والمَعرفة المُحددة والمختصة، بخاصة الجماعات التي لديها قنّاصة وخبرة في التعامل مع المتفجرات، بعيدة من الصراع بسبب عدائها الشديد للنظام السوري وحليفه الروسي.
وهكذا فإن محاولة بوتين لحشد المتطوعين جاءت بمثابة استجابة لا إرادية لنداء زيلينسكي، دون تقييم شامل للسلبيات المحتملة. وأكد فشل حملة التجنيد التي أطلقها النظام السوري أن نقطة ضعف هذا النظام هو حليفه الأكبر – روسيا. كما أن الصمت الحذر الذي التزمته الدول العربية الأخرى وتحفّظ تلك الدول عن تقديم المساعدات لروسيا قد يكون مؤشّرًا ذا دلالة مع مرور الأيام.
يمحو استمرار العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا عشرين عامًا من جهود موسكو الديبلوماسية لإعادة تأهيل شراكتها مع العالم العربي. والحقيقة أن انخراط بوتين في هذه الحرب بدون استشارة شركائه، ومخاطرته بزعزعة استقرار الدول العربية بسبب تحديات نقص القمح وضرورة العثور على طرق جديدة لنقل البترول، ستكون له آثار مؤكدة على العلاقات الديبلوماسية في المستقبل.
وعلى الرغم من أن روسيا كانت تتوقّع نجاح القمة العربية المقبلة في الجزائر العاصمة في تشرين الثاني (نوفمبر)، حيث كانت تأمل في تحقيق إنجاز شخصي للرئيس بوتين من خلال عودة سوريا إلى المسرح الإقليمي، إلّا أن توقعاتها هذه لا يبدو أنها سُتكلّل بالنجاح. فالقرائن القليلة على توافق الدول الأعضاء على دعوة بشار الأسد لحضور القمة، التي كانت تلوح في بداية العام، قد اختفت بعد المشاورات التي أجراها أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، مع أعضائها.
الحقيقة أن الحرب الدائرة في أوكرانيا قد زادت اعتماد نظام دمشق على موسكو. ولهذا، فقد يؤدي حرص بشار الأسد على دعم الغزو إلى إلحاق أضرار جانبية به في النهاية. وبينما يسعى الأسد إلى الخروج من العزلة الديبلوماسية لنظامه، يواجه حليفه الأساسي حاليا عزلته الخاصة، ما يُعيقُ محاولات سوريا لإخراج نفسها من مأزق سياسي امتدّ طويلًا.
- بيار بوسيل هو كاتب عمود وباحث مشارك في مؤسسة البحوث الاستراتيجية “ FRS“ في باريس. بوسيل حاصل على الدكتوراه ويُركّز في أبحاثه على الجماعات المسلحة في العالم العربي وعلى الجماعات الإسلاموية والإسلام السياسي والجماعات الإسلامية المتطرفة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.