فرحةُ العرس في ذاكرة الريشة (1 من 2)

إِدموند لايتون: “تسجيل العرس” (1920)

هنري زغيب*

بعدما كان مأْلوفًا، في تحضيرات العرس، تكليفُ مصوِّر فوتوغرافي يلتقط هنيهات الفرح تلك في مجموعة صُوَر تؤَرِّخ ذاك النهار التاريخي في حياة العروسَين، تحوَّل التكليف اليوم إِلى مصوِّر الفيديو يوثِّق بالوسيطة السينمائية تفاصيل التحرُّك، إِلى ما يلتقطه المدعوُّون والحضور بوسائط التواصل الإِلكتروني المتعدِّدة، تأْريخًا احتفالَ العرس ومفاصلَه المتتالية. غير أَن احتفال العرس، قبل ولادة كاميرا الصورة والفيديو، كان تأْريخُه بتكليف رسام بارع تبقى لوحتُه في البيت ذاكرةً استعاديةً لفرحة العرس.

هنا، في حلقة أُولى، نماذجُ من تأْريخ العرس في ذاكرة اللوحة، مع صعوبة ما في اللوحة من تفاصيلَ مُلْزمةٍ ريشةَ الفنان، لا يحيد عنها كي لا يخون لحظةَ المشهد. ومع اختلاف تقاليد العرس بين بين بلاد وبلاد، وبين منطقة ومنطقة، وبين الطبقات الاجتماعية المختلفة، تبقى في اللوحة مسحة رومنسية تقليدية واضحة أَيًّا تكُن ظروف العروسين.

فاسيلي بوكيريف: “العرس الحزين” (1862)

تسجيل العرس واحتفاء بالعروس

اشتهر الرسام الإِنكليزي إِدموند بْلير لايتُون (1852 – 1922) بلوحاته الحاملةِ طابعَ القرون الوسطى. منذ صباهُ شجَّعه والدُه (الرسام كذلك) على إِتقان الرسم فنشأَ باكرًا عليه، ونحا صوب اللوحات ذاتِ الجذور التاريخية في أُسلوب رومنسي غنيٍّ بالتفاصيل. ومع أَنه لم يكن عضوًا في “الأَكاديميا الملكية”، بقي 40 سنة يعرض فيها أَعماله.

بين أَبرز لوحاته: “تسجيل العرس” (1920) التقط فيها لحظة القمة في فرح الزواج، وركَّز على العروس أَكثر مما على العريس أَو على سائر تفاصيل المشهد، فرسم العروس توقِّع على سجلّ العرس الذي يحفظ التاريخ والشاهدَين. وعكَسَ على وجهها وعلى طرحة العرس نورًا منهملًا عليها من النافدة العالية المفتوحة إِلى يمينها، وأَبقى في بعض الظل سائرَ الموجودين في المشهد: المأْذون، العريس، وأَفرادًا من أُسرة العروسَين.

بيتر بروغِل: “عرسٌ فلَّاحيّ (1566)

العرس الحزين

مع أَن العرس إِجمالًا يكون في مهرجانٍ من الفرح والغبطة، لا يبدو ذلك على ريشة الرسام الروسي ڤاسيلي پوكيريڤ (1832 – 1890). ومع أَن للعرس في اللوحة (1862) أُبَّهة جلال احتفالي ضخم في الإِطار العام والأَشخاص فيه، ويبدو العروسان من علية القوم، ظلَّ الطابع القاتم طاغيًا على اللوحة في عتمة كنيسةٍ تتوسَّطها عروس صبية جميلة تغلب على وجهها ملامحُ الحزن، بسبب عريس يقف إِلى يمينها بشيخوخة واضحة ومدالية ذهبية تتدلَّى على صدره تدلُّ على غناه وبورجوازيته. لكنَّ نظرته الفوقية الغريبة إِلى عروسه لا تدل على حبه إِياها أَو عن تولُّهه بها أَو عن فرحه بالزواج منها. وبقي سائر الأَشخاص حولهما في العتمة مشاركين في نظرته إِليها.

وكانت للرسام دراسات متواضعة في بداياته، لكن مهارته حملتْه إِلى “معهد موسكو للرسم والنحت والهندسة” فتخرَّج منه سنة 1847 وبقي فيها مُدرِّسًا. ولوحته هذه، “العرس غير المتكافئ”، هي من أَبرز أَعماله، ويرى بعض المؤَرخين أَن الحزن على وجه العروس يعكس أَمرًا خاصًّا من حياته الشخصية.

عرس فلَّاحيّ

هذه اللوحة من أَشهر أَعمال الرسَّام الهولندي الفلمنكي بيتر بروغِل الأَب (1525 – 1569). وهي واحدة من سلسلة أعماله عن الحياة الريفية. وفي اللوحة (1566) بيت متواضع، لكنه يضج بالحياة والحركة والفرح وسْط زحمة الاحتفال بالعرس: العروس جالسة بأُبَّهة أَمام ستارة خضراء وسْط مأْدبة مكتظَّة بالمدعوِّين. تبدو صامتة ورصينة كأَنما مفصولةٌ ذهنيًّا عمَّا حولها. والمدعوون داخلون من الباب فيما شخصان يحملان قُربتَين يزيدان الجو بهجةً وفرحًا. وواضحةٌ ملامح الهمسات والهمهمات وزحمة المدعوين في القاعة. والنور المنهمل من النافذة يدلُّ على أن الساعة صباحية، فوفْق تقاليد القرن السادس عشر يغيب العريس عن الاحتفال ولا يشارك فيه، فلا يحضر إِلَّا عند المساء.

جون بويس كريـمِل: “عرس مديني” (1820)

عرس مَديني

اللوحة من إِبداع الرسام الأَلماني الـمُهاجر في فيلادلفيا جون لويس كريـمِل (1786 – 1821). بدأَ مسيرته الفنية سنة 1810 لكنه لم يشتهر إِلَّا حين هاجر إِلى فيلادلفيا وأَخذ يرسم مشاهد من الحياة الأَميركية اليومية، وخصوصًا الريفية منها. وفي هذه اللوحة (1820) رسم كريـمِل عرسًا في بيت مزارع من ولاية بنسيلفانيا، وتدل الأَغراض فيه والخزفيات والأَدوات وقطَع الأَثاث والكراسي من طراز وندسور، على أَن العرس في أُسرة ميسورة غنيَّة.

واختار كريـمِل أَن يرسم العروس بالأَبيض مع أَن العروس لم تكن ترتدي الأَبيض فترتئذ. لكنَّ الرسام تعمَّد ذلك كي يؤَكِّد أَن تذهب عين الناظر فورًا إِلى العروس، مُحاطة بأَفراد العائلة وأَصدقاء وحيوانات أَليفة. وقد تكون السيدة الجالسة إِلى يمين اللوحة هي والدة العروس، مبتهجةً بابنتها، فيما العروس متكئة على عريسها في لحظة حنان. ويبدو العروسان غافلَين عن المأْذون الواقف أَمامهما، فيما طائرا الحُب في القفض فوقَهما يرمز إلى جو الحب الواضح بين العروسين.

وعالج رسامون آخرون موضوع العرس، في فترات مختلفة ومن مدارس فنية متعددة، في لحظات ومواقف مختلفة، أُكمِلُها في الجزء التالي من هذا المقال.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى