إيران… الجائزة الضائعة؟ هل تُهدي إسرائيل حَلَّ الدَولَتَين لطهران مُقابل سلامٍ استراتيجي؟

إنَّ رغبة إسرائيل وإيران في شراء الهدوء قد تُحفّزُ مبتكري الحلول على صياغةِ مُقترحاتٍ فضفاضة تُتيحُ لتل أبيب عرض حلِّ الدولتين على طهران التي تستطيع حينها القول بأنها أرجَعَت الحقَّ الفلسطيني بقوّة الردع، وإن بدولةٍ منقوصة، تُقدّمُ بموجبه لإسرائيل ضماناتٍ بعدم الاعتداء مقابل تدفّق الاستثمارات ورؤوس الأموال.

هل تولد أخيرًا دولةٌ فلسطينية عبر اتفاقٍ إسرائيلي-إيراني؟

ملاك جعفر عبّاس*

صبيحةُ ذلك اليوم الخريفي في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 تَغَيَّرَ الشرقُ الأوسط الذي نَعرِفُهُ إلى غيرِ رَجعة. أدّى أَمرُ العمليّاتِ الذي أصدرته إيران لذراعها الفلسطيني في غزة، “حركة حماس”، إلى تفجيرِ بُركانٍ كانَ يَغلي مُنذُ أربعين عامًا. اعتَقَدَت الجمهورية الإسلامية أنها تستطيعُ شَلَّ محادثاتِ السلام السعودية-الإسرائيلية، التي كانت تُريدُها واشنطن وترعاها، بعمليٍةٍ مَحدودةِ الكلفة تفضي إلى حَصرِ الملفِّ الفلسطيني بيَدِ طهران وسَحبِهِ من يَدِ الرياض لتَحويله الى ورقةِ مُساوَمةٍ تَضمَنُ مَوقِعَ نظامِ الملالي في الإقليم كعُنصُر ضغطٍ على دول الخليج العربية وكلاعبٍ أساس يتقاسَمُ مناطقَ النفوذِ مع إسرائيل.

لم تَكُن تلك الحسابات في مكانها، انقلبَ السحرُ على الساحرِ وانهارَ “محورُ المقاومة” الإيراني برُمّتهِ حتى وَصَلَت النارُ إلى طهران وهدّدت بإحراقِ النظامِ بمَن فيه ومعه. وككُلِّ الحروب، خَلَقَ اختلالُ التوازُنِ في الإقليمِ فراغاتٍ ملأت تركيا بَعضَها في سوريا، وأعادَت تَمَوضُعَ دولٍ خليجية في ملفات لبنان وسوريا وفلسطين واليمن والعراق، فيما تلقّت إسرائيل ضرباتٍ لم تشهَد مثيلًا لها منذ نشأتها من دونِ أن تتمكّنَ من فَرضِ مُعادلاتٍ نهائية وثابتة بعد، ومن دونِ أيِّ أُفُقٍ لحَلِّ القضية الفلسطينية.

وفي ظلِّ حديثٍ أميركي مُتَواتِر عن اتفاقاتٍ ابراهيمية مُنتَظَرة يتمُّ الاعدادُ لها مع سوريا ولبنان، تحديدًا، برزَ مسارٌ جديد بَعدَ اتصالٍ بين رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف ووزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بَحَثَ فيه الجانبان سُبُلَ إقامةِ سلامٍ دائمٍ بين إسرائيل وإيران. وربما كان هذا التفكيرُ ضربًا من الخيال قبل عامين، فالهجومُ الذي قادته “حماس” كان يهدفُ إلى إجهاضِ مسارِ التطبيع بين إسرائيل والسعودية، لكنّه ربما فَتَحَ أخيرًا نافذةً أمامَ صفقةٍ أكبر: سلامٌ استراتيجي بين إسرائيل وإيران.

وبينما تراجعت الرياض عن التطبيع بسببِ الحربِ على غزة وعدم قبول أبيب بحلِّ الدولتين، تلوحُ في الأُفُقِ فرضيةَ أنَّ “الجائزة” التي كانت السعودية على وشكِ اقتناصها، قد تنتقلُ إلى طهران، إن اختارت طريقَ البراغماتية. فهل يُمكِنُ لإسرائيل أن تَعرُضَ “حلَّ الدولتَين” ثمنًا لصفقةٍ كبرى تُنهي الصراعَ مع إيران؟ وهل تكونُ باكستان هي الجسر الإسلامي الذي يَربُط بين عدوَّين تاريخيين؟ وهل يُمكنُ لإيران أن تتحوّلَ من “الراعي الثوري” إلى “الطرفِ السياسي” في التسوية النهائية؟ وإذا كان الأمرُ كذلك، فما الثمن المطلوب؟

ما الذي يدفعُ إسرائيل وإيران للتفكير في السلام؟

في الثالث عشر من حزيران (يونيو) كَسَرَ الطرفان القاعدة الذهبية للصراع القائمة منذ 1979: “لا حَربَ مباشرة”. شنّت إسرائيل موجةَ هجماتٍ مُنَسَّقة من البحر والجو والفضاء السيبراني على منشآتٍ نووية وعسكرية داخل إيران، استُخدمت فيها طائرات “أف-35” ( F-35)، ومسيّرات، وصواريخ كروز بعيدة المدى. دمّرت الضربة أجزاءً من منشآت نطنز وأصفهان النووية، ومنصّات صواريخ باليستية قرب أراك وكرمان، وأنظمة قيادة وسيطرة في طهران ومنشآت سيبرانية في تبريز وقُتِلَ أكثر من 60 ضابطًا من الحرس الثوري الإسلامي، بينهم 12 من كبار القادة. تحقّقَ الهدفُ الإسرائيلي بكَسرِ هَيبةِ الردعِ الإيراني، وتحطيم البنية التحتية لبرنامج الصواريخ والطائرات المسيّرة وتعطيل البرنامج النووي بعد أن أُخرِجَت “الاذرُع” من الخدمة في الضربات المتتالية للمحور منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

في المقابل، ولأوّل مرة في تاريخها، أطلقت إيران مباشرةً من أراضيها أكثر من 400 صاروخ باليستي ونحو ألف مُسَيَّرة بعضها عبر العراق وسوريا. واستهدفت الصواريخ تل أبيب، وقاعدة نيفاتيم الجوية، ومنشآت صناعية في النقب، ومحيط مفاعل ديمونا، وميناء حيفا وعددًا من المؤسّسات الحسّاسة التي لم تُفصِح إسرائيل عنها. ورُغمَ فعالية القبّة الحديدية ومنظومة الدفاع الصاروخي، فقد سقطت عشراتُ الصواريخِ في الداخل الإسرائيلي، مُسفِرةً عن مقتل 28 شخصًا وإصابة أكثر من ثلاثة الاف، ومُسَبِّبةً بدمارٍ كبير ورُعبٍ لم تعرف إسرائيل مثلهما منذ تأسيسها. لقد أثبتت إيران انها قادرة على الردّ ولا تعتمد فقط على وكلائها في الإقليم.

وصحيحٌ أنه من المُبكِر الجزم بنتائج هذه الحرب، إلّا أنَّ الثابت أنَّ الطرفَين قادران على إلحاقِ خسائر ببعضهما البعض لا يُمكِنُ تحمّلها في المدى الطويل، وأنَّ المعادلات الداخلية لدى الجانبَين تُحتّمان البحثَ عن بدائل أقل كلفة من الحرب المفتوحة تُشبِهُ الى حَدٍّ كبير الوضعَ بين الهند وباكستان بعد أن اصبحتا نوويتَين، أو بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، أي معادلة السلام بالردع (Peace by deterrence). وتلعبُ عواملُ عدة في صالحِ تبنّي هذا الخيار، منها الإنهاك العسكري للطرفيَن، ورغبة الولايات المتحدة والصين في تثبيتِ استقرارٍ إقليمي يفسحُ المجالَ أمامَ اتفاقاتٍ اقتصادية كبرى. كما إنَّ للوسطاء المُحتَملين كسلطنة عُمان وقطر وباكستان مصالح كبرى في إنجاز تسوية كهذه، فضلًا عن أنَّ هناكَ شعورًا داخليًا في كلا البلدين بأنَّ التهديدَ الوجودي حقيقي.

لكنَّ العقبات التي تقف أمامَ تحقيقِ هذا الهدف ليست سهلة أو هَيِّنة. فالنظامُ الإيراني العقائدي أنتَجَ سرديةً جامدة وخشبية جعلت من مُعاداة إسرائيل حَجَرَ الزاوية في الشخصية السياسية الإيرانية، واعتمدَ إلى حدٍّ كبيرٍ في فضائه الخارجي على الوكلاء والعُملاء من “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” والحوثيين والفصائل العراقية لدرجةٍ أصبحَ من الصعبِ تفكيكُ هذه المنظومة عقائديًا وعسكريًا وماليًا، كما من الصعب أيضًا تصوُّرُ السياسة الخارجية لإيران في غيابها.

أما من ناحية إسرائيل فقد بلغت نشوةُ الانتصاراتِ المُتتالية، معطوفةً على تطرُّف الحكومة وطموحاتها التوسُّعية، مستوياتٍ هذيانية يصعبُ معها معرفةُ حدود الطموح الإسرائيلي، وتغيبُ معها المفردات السياسية الضرورية لأيِّ حوارٍ سياسي في ظلِّ سيطرة الخطاب التوراتي على العقلِ السياسي الحاكم في الدولة العبرية.

لكن رُغمَ الضجيجِ الإيديولوجي العقيم، لا تَغيبُ المصالح الاقتصادية عن تفكيرِ اللاعبين الأساسيين. فرُغمَ العقوبات، تُمثّلُ إيران سوقًا واعدة بحجم أكثر من 90 مليون نسمة، وفيها تطوّرٌ تكنولوجي وخامات طبيعية ضخمة كالنفط والغاز والمعادن النادرة التي تحتاجُ استثماراتٍ أجنبية للاستفادة منها. ولا شكَّ أن مقاربةَ الرئيس دونالد ترامب لملفِّ المفاوضات مع إيران تضعُ في صلب التوجُّهِ الأميركي العقودَ الضخمة التي يمكن ان تدرَّها السوقُ الإيرانية على الولايات المتحدة وإسرائيل. كما تحتاج إيران بشدة إلى تحرير مئات المليارات من الأصول الإيرانية المجمّدة، وإعادة دمج طهران في النظام المالي الدولي. ويُشكّلُ موقعُ إيران الجغرافي قلب الشرق الأوسط وشريانه الحيوي الذي إن أُعيدَ وصله بالعالم سيفتح ممرّات تجارية وطاقوية تُغري كثيرًا من اللاعبين بدخول التجربة.

وفي غيابِ وجودِ أراضٍ مُحتلّة أو مساحةٍ جغرافية مُتنازَع عليها أو أسرى، ينحصرُ موضوعُ السلام المُزمَع بين الدولتَين على ضمان عدم الاعتداء من الطرَفَين، وترتيب مساحات الاشتباك الخارجي في مناطق النفوذ إن كانَ مصطلح “السلام الدائم” يعني رَبطَ النزاع. أما إذا كان المقصود دخول إيران في المسار الابراهيمي فستكونُ أمام محكٍّ كبيرٍ لصدقية خطابها المدافع دومًا عن الحق الفلسطيني. فبعد إدراك شعبها وجمهورها أنَّ مسألةَ تدميرِ إسرائيل ورَميِها في البحر أصبحت خارج الحسابات بعد الحرب الأخيرة، هل تطرحُ إيران حل الدولتين كمطلبٍ للسلام مع إسرائيل؟ وهل يُمكِنُ أن تقبلَ إسرائيل بالتفاوض مع الإيرانيين على هذا الأساس بعد أن رفضته مع المملكة العربية السعودية؟

لا يُمكِنُ الإجابة عن هذه الأسئلة في غيابِ المعطيات الموضوعية لطرحٍ كهذا، لكن رغبة الطرفين في شراء الهدوء قد تُحفّزُ مبتكري الحلول على صياغةِ مُقترحاتٍ فضفاضة تُتيحُ لإيران المجالَ للقول أنها أرجَعَت الحقَّ الفلسطيني بقوّة الردع، وإن بدولةٍ منقوصة، تُقدّمُ بموجبه لإسرائيل ضماناتٍ بعدم الاعتداء مقابل تدفّق الاستثمارات ورؤوس الأموال.

لا يبدو الفلسطينيون رابحين في هذا السيناريو، ومن غير المُستبعَد أن يرفضوا التوقيع على أيِّ صيغٍ لا تتضمّنُ حدودَ الرابع من حزيران (يونيو 1967 والقدس الشرقية عاصمة لهم. كما من المرجّح أن تضعَ السعودية “فيتو” كبير على خطوةٍ كهذه تستثنيها من المعادلة. لكنَّ التقارُبَ السعودي-الإيراني الذي صمدَ خلال كل هذه الأزمة، والدور المزمع لباكستان وعُمان وقطر وتركيا قد يشكل مظلّة إسلامية سُنّية-شيعية لحلٍّ استراتيجي شامل للصراع التاريخي مع إسرائيل في الشرق الأوسط. وإذا كانت السعودية قد خسرت فرصة التطبيع بسبب غزة، فقد تكون إيران من تخطف هذه الفرصة، ولو جُزئيًا، عبر البراغماتية.

  • ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصياتٍ عربية وعالمية خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصّصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلّحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصّة Linkedin على: linkedin.com/in/malakjaafar

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى