تأخيرُ الزمان جريمةٌ يَرتَكِبُها الحُكّام

بقلم السفير الدكتور جان معكرون*

إذا كان المؤرخ الدكتور قسطنطين زريق وصَفَ صانعي التاريخ قائلاً: “تكونون صانعي التاريخ إذا اتّفق ووَصَفكم بذلك مؤرخو المستقبل”، فكيف سيصف المؤرخون حكّام لبنان الذين تولّوا المسؤولية خلال العقدين الأخيرين من القرن الواحد والعشرين؟

مَن لا يصنع التاريخ من الحكّام سيكون موضوع سخرية من قبل الشعب ومحطّ انتقاد المؤرّخين. فمَن يُراجع وسائل التواصل الإجتماعي ويقرأ الصحف اليومية يُلاحظ أنّ لبنان لم يشهد في تاريخه هذا السيل الجارف والكمّ الهائل من الإتهامات والإنتقادات اللاذعة المُوَجَّهة ليس فقط ضد السياسيين، بل أيضاً ضد كل مَن تولّى مسؤولية دستورية أو قضائية أو إدارية، كما تُعاين أيضاً كيف يتنافس المواطنون في تفجير غضبهم المشروع ضد السياسيين. إنها حقاً نقمة عارمة غير مسبوقة، وقد بلغت حداً أخاف جميع المسؤولين، خصوصاً النواب والوزراء والقيّمين على المال العام، ومنعهم حتى من التنقّل بحريّة مخافة تعرّضهم للأذى من قبل المُتضرّرين من سياستهم الفاشلة.

ولئن فشل الشعب في إسقاط الحكّام فلم يبقَ أمامه سوى الأمل في تغييرهم بالوسائل الديموقراطية السلمية، أي الإنتخابات النيابية. لكننا نشكّ في إمكانية حصولها في ظروف ديموقراطية مقبولة بسبب البيئة السياسية الحالية غير المؤاتية ديموقراطياً.

إنّ الواقعة المُثيرة للدهشة هي تلهّف بعض الحكّام والمسؤولين اللبنانيين إلى أن يكونوا دوماً محطّ اهتمام وأنظار الناس، مُعتمدين السفسطة السياسية، أي أن يوحوا للمواطنين أنهم يقولون شيئاً مُهماً في حين يتحدّثون عن أشياءٍ كثيرة غير ذات علاقة بمشاكل الناس. ويتجلّى ذلك عملياً في عشق المسؤولين للظهور الإعلامي، والإسترسال في توصيف الأزمات ومعاناة المجتمع، إلى حدٍّ بلغوا فيه مستوى الهراء في وقتٍ يتوقّع الجميع حلاً عملياً لا كلاماً فارغاً.

وفي هذا السياق، واستزادة في تبيان بشاعة ظاهرة سفسطة الحكّام، أتذكّر ضاحكاً ما قرأته في كتاب “القيادة في الأوقات العصيبة” (Leadership in Turbulent Times) عن رؤساء الولايات المتحدة، كيف أنّ أليس، إبنة الرئيس ثيودور روزفلت، قد علّقت بسخرية على أبيها الذي كان يتلهّف لكي يكون محطّ اهتمام الناس، وأن يحتلّ الواجهة الأولى في أي حدث، كأن يرغب في أن يكون الطفل المُحتفى به في المعمودية، أو العريس في حفلة الزفاف، أو حتى المُتوَفّي في مأتم تأبينه.

إنّ ما أشارت إليه ابنة الرئيس روزفلت ينطبق إلى حدٍّ كبير على بعض السياسيين اللبنانيين الذين لا همَّ لهم سوى أن يكونوا في قلب الحدث حتى لو كان مُخجلاً، في حين أنّ المطلوب واحد وهو تنفيذ طلبات المواطينن المُحقّة.

رُغم كل العوائق والسلبيات، ما زلنا نؤمن بالتغيير من فوق، أي أن يعود الحكّام إلى رشدهم الوطني وضميرهم المهني وإلى شعورهم الإنساني، وأن يُباشروا في العمل والإصلاح. وليس من المُعيب أن نقتدي بغيرنا وبمَن هو أفضل منا، فعندما تولّى الرئيس ليندون جونسون رئاسة الولايات المتحدة في 27/11/1963، غداة اغتيال الرئيس جون كينيدي، ألقى خطاباً مهماً أمام مَجلسَي الكونغرس، الشيوخ والنواب، نقتبس منه الآتي:

“رُغم الإنقسامات في الرأي الذي يُميّز أمّتنا، فإنّ الكونغرس يستطيع أن يعمل وأن يعمل بحكمة وأن يعمل بنشاط وبسرعة عندما تدعو الحاجة، وإنّ الحاجة هنا في هذا الزمان والمكان وإنني أطلب مساعدتكم”.

حبّذا لو يعمل حكّامنا بحكمة ونشاط وبسرعة لحلّ أزمات الوطن، لأنه من المعيب أن يبقى لبنان بلا حكومة لأشهرٍ عديدة، كما كان من المُخزي أن يبقى بلا رئيس لأشهرٍ مديدة. ومن المُستهجَن أن تتعطّل عجلة الإدارة لفترة طويلة من دون البتّ في التعيينات الإدارية والقضائية…

إنّ هذا الأداء السيّئ في الحكم يقودنا إلى الإعتقاد بوجود ظاهرة غريبة ومُخيفة وهي الساديّة السياسية، أي اعتياد الحكّام على التلكّؤ والتباطؤ في تسيير عملية الحكم وفي تلبية حاجات ومصالح المواطنين، وبمعنى آخر التلذّذ في استغلال الوقت واستنفاده واستنزافه من دون الأخذ بعين الإعتبار كرامة المواطنين.

إنّ هكذا تصرفات ووقائع ينطبق عليها وصف مُريع ومُستَنكَر وهو “تأخير الزمان”، وهو المُناقض لما هو مطلوب وضروري لنهضة الوطن، عنينا به تسريع الزمان.

إنّ سلوكاً من هذه الفصيلة هو بمثابة تجاهل للشعور العام لدى المواطنين، وإنّ كل مسؤول لا يحترم هذا الشعور العام مصيره الفشل لا محالة. ومن هذه الزاوية، نرى أهمية تسريع التغيير الذي يُحقّق مطالب وأماني المواطنين، وإذا لبّى الحكّام هذه المطالب بالسرعة المرجوّة ومن خلال رؤية واقعية ومستقبلية يكونون بذلك قد سرّعوا الزمان. وكان نادى بفكرة تسريع الزمان الشاعر سعيد عقل في مقالته في صحيفة الجريدة بتاريخ 15/2/1970 حيث اعتبرها ميزة الشعوب العظيمة، وبالتالي ميزة الحكّام الفريدة إذا ما أقدموا عليها.

إنّ تسريع الزمان يعني أن يعمل الحكّام والمسؤولون ما لم يُعمَل، وأن يبتكروا الحلول الفُضلى، وأن يستبقوا الأزمات الكبرى بتنفيذ الحلول المُسبَقة بغية تجنّب انعكاساتها السلبية على المجتمع. وبكلمةٍ أخرى، أن يتمتع الحكّام بالقدرة والجرأة على اتخاذ قرارات حاسمة وخلاّقة كفيلة بضمان السلام المُجتمعي ورفاهية أبناء الوطن.

فالحاكم هو المسؤول الأول والأخير أمام التاريخ. وإن كان التاريخ يُحاسب ويُعاقب معنوياً، فإنّ المُحاسبة المعنوية هي أقوى أنواع المُحاسبة لأنّ كتب التاريخ والأجيال المقبلة ستذكرهم بأنهم عاثوا فساداً، وبأنهم حطّموا آمال شعوبهم واستأصلوهم من جذورهم، وبأنهم كانوا الملح الفاسد الذي أفسد كل شيء، وبأنهم تميّزوا وتمايزوا بالأنانية التي تهدم ولا تبني. كما سيذكرهم التاريخ بأنهم تخلّوا عن أغلى ما عندهم، أي عن وطنيتهم من أجل حفنة من الدولارات.

ورُبّ سائلٍ يسأل: لماذا يُتقن الحكّام فنّ تأخير الزمان الذي أدّى وسيؤدي حتماً إلى النتائج السلبية التالية:

  • الإزدياد المُخيف في حجم الدين العام.
  • إزدياد عدد الفقراء والعاطلين من العمل، وبالتالي ارتفاع نسبة الجرائم.
  • تصنيف لبنان في مصاف الدول الفاشلة والمُتخَلّفة.
  • إنهيار البنية التحتية الإقتصادية.
  • تراجع المستوى الثقافي والتعليمي.
  • تقليص دائرة تفكيرنا وحصرها بأقليّة حاكمة تُتحفنا يومياً بتغريدات وتصاريح سطحية خالية من أي رؤية أو خطة مستقبلية.

وأخيراً بكل أسف، نقول بئس هذا الزمن، فبعدما كانت السماء حدود طموحنا في الخمسينات الفائتة، لامست اليوم هذه الحدود جهنّم.

يُقال أنّ الحكّام يتثقفون بالمطالعة والكتابة وبالإصغاء، إلاّ أنّ المصيبة الكبرى إذا لم يُصغِ الحكّام إلى صوت الشعب، وإذا لم يقرَؤوا كتب الفلاسفة وسيَر العظماء في التاريخ، وأخيراً إذا لم يكتبوا بأنفسهم بل بما أُمليَ عليهم.

إنّ تأخير الزمان جريمة يرتكبها الحكّام بحق الوطن لأنه مُكلفٌ جداً، فمَن يُحاكِمهم؟

التاريخ لا يرحم.

  • السفير الدكتور جان معكرون هو باحث وديبلوماسي لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى