الأزمة السياسية في باكستان تخفي إعادة ترتيب السياسة الخارجية

يتوقّع المُحلّلون أن القضية الأساسية التي ستحضر في جميع البرامج الانتخابية في أي انتخابات مقبلة، ستُركّز بشكلٍ واسع على السياسات الخارجية لباكستان، وهو ما سيعكس توجّهات الأحزاب في علاقاتها مع الولايات المتحدة.

الجنرال قمر جاويد باجوا: يسعى إلى تقارب مع أميركا

عارف رفيق*

في كلمةٍ أمام منتدى أمني في إسلام أباد يوم السبت الفائت (6/4/2022)، أدان رئيس أركان الجيش الباكستاني، الجنرال قمر جاويد باجوا، الحرب الروسية في أوكرانيا بعباراتٍ لا لبس فيها، ووصفها بأنها “غزوٌ” و”عدوانٌ ضدّ دولة أصغر لا يُمكِنُ التغاضي عنه”.

لم تكن هذه التصريحات مُثيرةً للجدل لولا تَناقُضُها مع الموقف الرسمي للحكومة المدنية الباكستانية الغارقة في خضم أزمة سياسية تشمل الجيش أيضًا. في الواقع، إن الاضطراب السياسي المستمر في باكستان –والذي جعل رئيس الوزراء عمران خان يتجنّب التصويت على سحب الثقة بحكومته من خلال مناورات برلمانية مشكوك فيها، حيث انقسم ائتلافه وحزبه وسط ضغوط من المعارضة– يتعلّق بالسياسة الخارجية بقدرِ ما يتعلّق بالسياسة الداخلية.

في 24 شباط (فبراير)، كان عمران خان أول رئيس وزراء باكستاني يقوم بزيارة دولة لروسيا منذ ما يقرب من 23 عامًا، على أملِ إبرامِ اتفاقٍ بشأن مشروع خط أنابيب الغاز الحيوي الذي استغرق إعداده سنوات. لكن التوقيت كان بالغ الأهمية لسبب آخر: في وقتٍ سابق من ذلك اليوم، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدء غزو أوكرانيا. بعد أيامٍ، امتنعت باكستان –إلى جانب الصين والهند وعشرات الدول الأخرى– عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يُدين الغزو الروسي.

وتعرّضت زيارة خان وامتناع إسلام أباد عن التصويت في الأمم المتحدة لانتقادات شديدة داخل باكستان وخارجها. رأى الكثيرون أن الاجتماع مع بوتين، على وجه الخصوص، كان غير حكيم، بسبب الكيفية التي يُمكن أن يُنظَرَ إليها على أنها تأييدٌ لغزو أوكرانيا. زعم بعض المُعلّقين الباكستانيين، بمن فيهم صحافي يُعتَبَرُ ناطق غير رسمي لقيادة الجيش، أن خان كان يحاول الانضمام إلى كتلة “مُعادية للغرب” مع الصين وروسيا.

في باكستان، التي حكمتها الديكتاتوريات العسكرية لما يقرب من نصف تاريخ البلاد، تلعب القوات المسلحة دورًا سياسيًا بارزًا، حتى عندما تكون هناك حكومات مدنية في السلطة. وكان الجيش دعم خان عندما ترشح لمنصب رئيس الوزراء في 2018 ويُعتَقَدُ على نطاقٍ واسع أنه لعب دورًا حاسمًا في المساعدة على ضمان فوزه.

الآن، ومع ذلك، يبدو أن هذا الدعم يتضاءل. توقّفَ الجنرال باجوا عن دعم حكومة خان في وقتٍ سابق من العام الجاري، وكانت هناك تكهنات بأن الجيش لم يوافق على زيارته لموسكو، خصوصًا وسط مساعي المؤسسة العسكرية لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. وقد رفض خان هذه المزاعم في خطاب ألقاه في 31/3/2022، قائلًا إنه قام بالزيارة فقط بعد التشاور مع الجيش والسلك الديبلوماسي.

لكن تصريح باجوا في مؤتمر إسلام أباد الأمني ​​يرقى إلى مستوى التنصّل من سياسة الحياد التي تتبعها القيادة المُنتَخَبة، والذي تم توقيته قبل يوم واحد فقط من مواجهة خان للتصويت في مجلس النواب بحجب الثقة.

في خطابه الخاص أمام منتدى إسلام أباد الأمني، شدّد خان على حاجة باكستان إلى الاعتماد على الذات وسلّط الضوء على الآثار السلبية لتعاون باكستان السابق مع الولايات المتحدة، مُدَّعيًا أن النخبة الباكستانية باعت البلاد إلى واشنطن مقابل المساعدة وحماية ثرواتها غير المشروعة، ما تسبّب في أضرارٍ اقتصادية كبيرة وخسائر فادحة في الأرواح. ومن الواضح أنه لم يُشِر إلى أيِّ جوانب إيجابية في فترات الشراكة السابقة بين البلدين.

في المُقابل، قدم باجوا في المؤتمر نفسه العلاقة بين الولايات المتحدة وباكستان في ضوءٍ أكثر إيجابية، مُشيرًا إلى أن البلدين “لديهما علاقة استراتيجية طويلة وممتازة”. وبينما أكّد على أن باكستان لا تسعى إلى الانحياز إلى أيِّ كتلة جيوسياسية، فقد أشار باجوا إلى أن البلاد قد دُفِعَت إلى أحضان الصين منذ أن أغلقت الولايات المتحدة باب التعاون في السنوات الأخيرة، ما يُشيرُ بقوة إلى الحاجة إلى تصحيح المسار.

وقد تبنّى زعماء المعارضة في الأسابيع الأخيرة خطًّا مُماثلًا، سعيًا وراء تعاون أوثق مع واشنطن. أعرب يوسف رضا جيلاني، رئيس الوزراء السابق والقائد البارز في حزب الشعب الباكستاني المُعارض، عن موافقته على آراء باجوا بشأن العلاقات مع الولايات المتحدة وزعم أن خان قد أضرَّ بها.

يوم الخميس في 31 آذار (مارس)، قال خواجة محمد آصف – وزير الدفاع والخارجية السابق في حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية – نواز، والذي أبدى في العام الماضي فقط شماتة على طرد طالبان للولايات المتحدة من أفغانستان – أن باكستان يجب أن تحافظ على شراكتها مع واشنطن، مُشَبِّهًا المساعدة الأميركية بـ “أجهزة التنفس الاصطناعي” التي تحافظ على الاقتصاد الباكستاني صامدًا ومُنتَعشًا. وقد وافق شهباز شريف، المرشح المحتمل لمنصب رئيس الوزراء من حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية ليحل محل خان، على ما قاله آصف. وفي إشارة إلى المشاكل الاقتصادية التي تُعاني منها باكستان، أضاف شريف بأن “المُتَسَوِّلين لا يُمكنهم أن يكونوا مُختارين”.

يُشيرُ هذا الميل المتزامن تجاه الولايات المتحدة من قبل كلٍّ من الجيش الباكستاني والمعارضة السياسية إلى أن باجوا يسعى إلى إعادة ترتيب سياسي وجيوسياسي مشترك.

ومع ذلك، يبدو أن الضغط من الغرب على إسلام أباد لتنأى بنفسها عن روسيا قد شجع تحدّي خان. في آذار (مارس)، دعا ديبلوماسيون من 20 دولة أوروبية، إلى جانب أوستراليا واليابان، باكستان علنًا إلى التصويت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين روسيا. بعد أيام، ردَّ خان خلال تجمّعٍ عام، مُتسائلًا عمّا إذا كان الديبلوماسيون الأوروبيون قدّموا الطلب نفسه إلى الهند، وما إذا كانوا يعتقدون أن الباكستانيين هم “عبيدهم”. واتَّهَمَ منذ ذلك الحين واشنطن بالمشاركة في الاضطرابات السياسية الحالية، زاعمًا أنه هَدَفٌ لحملةٍ أميركية لتغيير النظام، ويرجع ذلك جُزئيًا بسبب زيارته إلى موسكو.

كان خان مُحقًّا في ملاحظة المعايير المزدوجة للغرب. ومع ذلك، فمن غير الواضح ما إذا كانت زيارته إلى روسيا تستحق المخاطرة بإبعاد الدول الغربية، لا سيما وأن الكثير من الاستقرار الاقتصادي لباكستان يعتمد على نمو الصادرات المُستدام والسريع – وأسواق التصدير الرئيسة هي الولايات المتحدة وأوروبا.

الواقع أن العلاقات الباكستانية الروسية قد شهدت تحسّنًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، حتى لو كان الكثيرون في باكستان يبالغون بشكلٍ أكيد في تقدير إمكاناتها. لأكثر من عقد من الزمان، سعى البَلَدان إلى تطوير علاقات واسعة النطاق استجابةً للتعاون المتزايد بين الولايات المتحدة والهند. منذ العام 2011، قام الخصمان السابقان في الحرب الباردة بمواءمة سياساتهما في أفغانستان، وشرعا في تدريباتٍ عسكرية مُشتَرَكة ووسّعا التعاون التجاري بشكلٍ متواضع. رفعت روسيا أيضًا الحظر المفروض على الصادرات الدفاعية إلى باكستان، مع إجراء بعض عمليات بيع الأسلحة الملحوظة في وقت لاحق.

كانت زيارة خان التي جاءت في توقيت غير مناسب، والتي تمّ التخطيطُ لها قبل أشهرٍ من الغزو الروسي لأوكرانيا، تهدف إلى حدٍّ كبير إلى الانتهاء من صفقة خط أنابيب باكستان ستريم الذي بنته روسيا والذي، إذا اكتمل، سيسمح لباكستان بنقل الغاز الطبيعي المُسال إلى أعلى البلاد من الجزيرة العربية. كانت احتياطات الغاز الطبيعي الباكستانية التي كانت وفيرة في السابق تستنفد بسرعة، ولا تزال مشاريع خطوط أنابيب الغاز المُخَطَّط لها منذ فترة طويلة من إيران وتركمانستان في حالة ركود بسبب الصراع أو العقوبات، ما أجبر إسلام أباد على الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال كحلٍّ مؤقت لدرء أزمة وقود محلي معلّقة. سيكون خط الأنابيب الروسي جُزءًا رئيسًا من شبكة توزيعها الخاصة.

لكن في حين قال وزير المالية الباكستاني السابق، أسد عمر، إن الصفقة، التي تم الاتفاق عليها مبدئيًا في العام 2015، كانت على وشك التوقيع، فقد يتعرض المشروع الآن للخطر بسبب العقوبات الأميركية. يبدو أن الديبلوماسيين الباكستانيين، مثل كثيرين آخرين في آسيا، قدّروا أن العقوبات الغربية على روسيا ستُلغى في النهاية. ولكن حتى يحدث ذلك، فإن اتّباعَ نهجٍ مُعادٍ تجاه الغرب يُقلّل من احتمالية حصول باكستان على إعفاءات من العقوبات التي من المحتمل أن تؤثّرَ في فتح خط الأنابيب في حالة إتمام الصفقة.

علاوة على ذلك، في حين أن خط الأنابيب يهدف إلى توسيع شبكة توزيع الغاز المحلية في البلاد مع زيادة قدرة استيراد الغاز الطبيعي المسال، فإن إمدادات الغاز الطبيعي المسال ستظل نادرة الآن حيث أن طلب المستوردين الأوروبيين الأثرياء، الباحثين عن بدائل من الوقود الروسي، يتجاوز العرض. من المرجح أن تستمر مثل هذه الحواجز الجيوسياسية في منع وصول باكستان إلى إمدادات الطاقة ذات الأسعار المعقولة والحيوية لتغذية النمو الاقتصادي للبلاد.

أصبحت أزمة الطاقة في البلاد الآن متشابكة مع سياساتها الداخلية، ما زاد من تعقيد المشكلة الشائكة بالفعل طالما استمرّت الأزمة السياسية الحالية. ولكن بمجرد انتهاء سياسة حافة الهاوية الحالية في إسلام أباد، من الضروري أن تؤسّسَ باكستان سياستها الخارجية على أساسِ إستراتيجية جغرافية سليمة.

أقامت باكستان بعناية وحذر علاقات مع روسيا لأكثر من عقد من الزمان، ما سمح لإسلام أباد استغلال التناقضات في السياسة الخارجية للهند من دون استعداء الغرب بشكل مباشر. روسيا هي شريك الهند منذ فترة طويلة ومُوَرِّد رئيس للمعدات الدفاعية. لكن الهند أيضًا تتعاون بشكل متزايد مع الولايات المتحدة. من خلال الانخراط مع روسيا، تأمل باكستان في إثبات قدرتها أيضًا على الحفاظ على مجموعةٍ متنوعة من الشراكات، وأيضًا أن العلاقات المزدهرة بين الولايات المتحدة والهند لن تكون بدون تكلفة على نيودلهي وواشنطن.

في الوقت نفسه، غالبًا ما انغمس أعضاء المجتمع الاستراتيجي الباكستاني في ما يُمكِن أن نُطلِقَ عليه الفانتازيا الجغرافية، حيث اقترحوا إنشاء كتلة جيوسياسية أوروآسيوية بقيادة الصين وروسيا وتضم دولًا مثل باكستان وإيران وتركيا. كان هناك نقاشٌ إضافي في السنوات الأخيرة حول دمج روسيا ومبادرات الاتصال الأوروبية الآسيوية مع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، بدون تقييم الجدوى الاقتصادية لذلك – أو الاعتراف بالضعف الأوسع للاقتصاد الروسي خارج قطاع الطاقة.

إن سعي خان إلى الحصول على الاحترام والإنصاف في العلاقات الخارجية أمرٌ مفهوم. لكن مع تفاقم المشاكل الاقتصادية في باكستان، لا تستطيع إسلام أباد تجذير سياستها الخارجية في أي شيء سوى في الحقائق الصعبة.

  • عارف رفيق هو رئيس شركة (Vizier Consulting, LLC وهي شركة استشارية للمخاطر السياسية تُركّز على منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا. يمكن متابعته عبر تويتر على: @arifcrafiq

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى