الياطر
هنري زغيب*
طوال مُتابعتي الندوةَ الاستثنائيةَ الخاصةَ التي أَعدَّها “مركز التراث اللبناني” LAU: “أَلْبرت الريحاني نهضويٌّ من لبنان”، مطلع الأُسبُوع الماضي في قاعةٍ غصَّت بجمهورها النُخبَويّ الكثيف، كانت تَخُضُّني فكرةٌ متكَرِّرة: كيف يبقى في الظل من أَصدَر نحو 400 كتاب، في رأْس قائمتِها إِعادةُ طبْعِ ما كان صدَر من مؤَلَّفات شقيقه الأَمين، ونشْرُ مخطوطاتٍ له وجدَها بعد وفاته (13 أَيلول/سبتمبر1940) فأَصدرَ معظَمَها تباعًا بعناية ومقدِّمات وشروح؟ وأَصدرَ مؤَلَّفاتِ كُتَّابٍ آخرين، بينها ما جَرُؤَ على نشْره ولم يَجْرُؤْ سواه. ونشَرَ موسوعةً عربيةً للطلاب والباحثين (858 صفحة، 4457 موضوعًا، 256 صورة وخارطة). وتبنَّى إِصدارَ مجلاتٍ رائدةٍ في هويتها: مجلة زوجته لورين “دنيا الأَحداث” (أَول مجلة في لبنان لتلك الفئة العمرية)، والعدَدَين الأَوَّلَين من مجلة “شِعر” (الرائدة في كونها للشعر فقط)، ومجلة “صوت المرأَة” (ترأَّس تحريرَها فؤَاد سليمان عند تأْسيسها، وبعد وفاته تَوَلَّتْها إِدفيك شيبوب، وكان صدُورُها قبل سنواتٍ من نيل المرأَة حقَّ التصويت في لبنان)، ومجلة “الثُريَّا” (لأَعضاء “حلقة الثريا” ولم تكُن لديهم إِمكانات إِصدارها). وكان رائدًا في تأْسيس متحف شقيقه أَمين الريحاني في الفريكة (أَول متحف أَدبيّ خاص في لبنان بتمويلٍ شخصي)، وفي تحويل بيته في الفريكة وحديقتِه “صالونًا أَدبيًّا” كرَّم فيه أَعلامًا مهاجرين (من “الرابطة القلمية” – نيويورك: إِيليا أَبو ماضي، عبدالمسيح حداد، إِلى ماري مكرزل ناشرة “الهدى” في نيويورك، ومن “العصبة الأَندلسية” – البرازيل: الشاعر القَرَوي) أَو مقيمين (شارل مالك، حسين قائدبيه، عبدالله العلايلي،…)، وعربًا (أَحمد الصافي النجفي،…)، واستقبل أَعلامًا كبارًا (سعيد عقل، فؤاد صرُّوف،…). وكان سبَّاقًا ورائدًا في كثير من المواقف والإِصدارات.
كلُّ هذا: أَلْبرت الريحاني؟
نعم: كلُّ هذا أَلْبرت الريحاني، ذاك المفردُ بصيغة الجمع. ولم أَذكُر منه هنا سوى بعض البعض.
وهي هذه الفكرةُ الْخَضَّتني طوال متابعتي الندوةَ عنه: كيف يمكن أَن يبقى في الظلِّ من أَطْلَع شُموسًا للفكر اللبناني والعربي؟
لدى خروجي من النَدوة تَهدُر بي تلك الفكرةُ، تراءَت لي صورةٌ هي هذه: في العادة أَن نرى على سطح البحر سفينةً كبيرة هادئة ساكنة، ترتَع بِهَيْبةٍ مَهيبة تراها العيون وبها تُعجَب. ثم تنصرف عنها، ولا يخطُر في بال رائيها أَنَّ الفضْل في هيبتها الساطعة وهدوئها الثابت وسكونها المستريح غيرِ الآبه بالأَمواج تتلاطَم حولها ولا تهزُّها من رُسُوِّها، إِنما هو للياطر المغروز في القاع متشبِّثًا برماله فلا تترنَّح السفينة. الناس يَرَوْنَ السفينةَ على وجه الماء، ولا يَرَوْنَ الياطر (المرساة) في قعر الماء. ولولا الياطر لتولَّت الأَمواج الهائجة إِطاحة السفينة من مكانها، وربما تهْلكتَها فإِغراقَها.
الياطر إِذًا هو الأَساس، هو المخفيُّ تحت الماء لا يذكُرُه أَحد، ويذكُرُ الجميع ثبات السفينة فوق الغَمْر.
أَلْبرت الريحاني هو هذا الياطر الذي اكتشفْنا نتاجه وثمارَ نشاطه النهضويّ. لم نكُن نعرف عنه كلَّ هذا الحجم النبيل من الإِنجازات حتى كشَفَتْها لنا – على منبر “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU- أَبحاثُ الدكتورة جنى مَكْرم بيُّوض عنه سيرةً ومسيرة، وعرضَتْها لنا صُوَرًا وشرحًا وتعليقًا، وتوسَّعَت بها وبسواها ابنتُه الشاعرة مي الريحاني في حديثها عن والدها ناشرًا، وأَوضحَها لنا مفصَّلَةً ابنُهُ الأَوسط رمزي في حديثه عن والده رائدًا ومُكَرِّمًا، في حضور ابنه الأَصغر سَرمَد، وحضور ابنه البكْر أَمين أَلْبرت الريحاني المتولِّي بجدارةٍ عاليةٍ إِدارةَ متحف الريحاني في الفريكة، وتأْليفَ كتُبٍ عنه، وتحقيقَ مؤَلَّفاته العربية الكاملة تحقيقًا مذهلَ الدِقَّة في ستة أَجزاء من نحو 6000 صفحة (إِصدار “مكتبة لبنان” – ناشرون).
منذ اليوم، بعد هذه الندوة عن أَلْبرت الريحاني، لم يعُدِ الناس يرَون مؤَلَّفات أَمين الريحاني وسائرَ منشورات “دار الريحاني” ونشاطِ صاحبها، إِلَّا ويرَون إِليها فيما يَنحنُون عميقًا عميقًا… لفَضْل ذاك الياطر.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).