… ثم يُشْرق ويُدَحرجُ الحجر
هنري زغيب*
يمكن إِيجازُ حياتي المتشابهة يوميًّا، بتَسَمُّري نهارًا طويلًا وردحًا من هزيع الليل أَمام الشاشة، عزفًا على مكابس الكومپيوتر تنوب تحت أَصابعي عمَّا كانَهُ بينها قلمي، لإِنجاز كتاباتي ومقالاتي المتتالية المتزاحمة حتى صحَّ بي قولُ صديقي الدكتور جورج نجار (نائب رئيس الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU) في رسالته إِليَّ إِنني “مدرار، أَصِلُ الليلَ بالنهار، بحثًا عن جديد الأَفكار، ودائمًا في قلميَ انبهار”.
وما كنتُ أَستشهد بقول الصديق جورج – على صحَّة ما يختصرُني قولُه – لولا العبارةُ الأَخيرة في رسالته أَنْ “دائمًا في قلمي انبهار”. وهذا صحيح لأَنني أَبحث عن كلّ جديد في إِقليم الثقافة: آدابًا وفنونًا وعُلُومًا، أُطالعها بانبهار الاكتشاف وأَنقُلها إِلى قرَّائي في “أَسواق العرب” فتتَّسع لديهم المساحة المعرفية ويتكامل فرح المتابعة.
يحدثُ لي، وأَنا إِلى الشاشة، أَن تنبُت تكرارًا من زاويتها السُفلى لقطات “أَخبار عاجلة” من مواقع أَو صحُف إِلكترونية تبث تصريحَ سياسيٍّ أَو زئبقيةَ الدولار أَو عزوفَ مرشَّح أَو تشكيلَ لائحة انتخابية أَو ارتفاعَ سعر المحروقات أَو “ضياعَ” أَموال المودعين أَو ردودَ سياسيَّين اثنَيْن “يتدَايَكَان”، وأَخبار النَقّ والنَعْي والتيئيس وفيها زبَدٌ آنيّ يذوب كرغوة الصابون تغسلها المياه من وَحل اليدَين.
استعملتُ كلمة “وَحل” وأَقصدُها. ولو كنتُ في الصحافة السياسية، كزملائي المضطرِّين مهنيًّا أَن يرصدوا الأَحداث على مدار الدقائق، لكان عليّ أَن أُتابعَ تصريحَ سياسيٍّ تافه، أَو أُلاحقَ اجتماعًا ثعلبيًّا، أَو أَتسقَّطَ أَخبار مرشَّحين مراوغين، لأَنقل إِلى القراء أَنباءَهم السخيفة. هذا ما سميتُه “الشغْل في الوَحل”، عُمْرُهُ رَغْوُ ثوانٍ تزول تحت أَول سكْبة ماء. وأَفهم الزملاء في الصحافة السياسية أَن يتولَّوا ذلك بلذَّة السبَق المهني في الصحافة الناجحة.
أَما وأَني في الإَقليم الثقافي، فاشتغالي في الرُخام والمرمر، ولا أَيٌّ منهما فيه وَحل: الآداب والفنون ساطعةٌ خلودَ الثقافة، وعابرةٌ فوق الآنيات وأَحداث يومية تنفلشُ كالعصْف على المواقع والمنصَّات وسرعان ما تنطفئ ليعصفَ غيرها سريعًا وينطفئَ سريعًا من جديد.
لذا لا أَهتمُّ لِمن يرى في كتاباتي الثقافية انفصالًا عن واقعنا اللبناني وما تتخبَّط فيه البلاد. قناعتي أَنَّ هذا الواقع الـمُرّ مهما طال سيزول، ويبقى دأْبِيَ الشؤُون الثقافية اللبنانية والآداب والفنون في العالم، وهي ثابتةٌ لا تزول مع أَيِّ وضع زائل. لن أَفتِّش في العتمة، وسوف أَبحث دومًا عن الضوء، وأَختار لقرائي مادةً تُضيف إِلى معلوماتهم ولو قبَسًا معرفيًّا ضئيلًا لتبقى نابضةً فيهم روحُ لبنان الثقافة والإِبداع. وإِذا السياسيون اغتالوا آمال الناس ويأَّسُوهم، فـــ”لن يقتلوا الفكر والروح، وستولد لحظةُ البرق من أَنقاض الإِحباط اللبناني” كما كتَب لي من پاريس الصديق الشاعر عيسى مخلوف، معتبرًا أَنْ لا ضرورةَ لتبرير نصِّي الثقافي وإِشاحتي عن الواقع السياسي العاهر.
بلى: ستبقى مقاومتُنا الثقافيةُ والإِبداعيةُ هي الأَبقى والأَرقى والأَنقى، وسيبقى لِلُبنان هامش الحرية الثقافية التي هي الهوية، وهي روحُ الرائعة بيروت التي تَشَوَّه وجهُها البحريّ ولم يَتَشَوَّه قلبُها الحضاري. وها هو ينبض في عناد الحياة، ويَرفد حياتنا الثقافية بشرايين متجدِّدة تعيد لبنانَ إِلى الأَلَق فيَخرج من نواويس السياسة التي لا تُشْبه سوى ساكنيها.
هي هذه حال لبنان، وهو هذا خلودُه الأُعجوبي: يَغرَق بيلاطسيُّوه في النسيان، يَنتهي يوضاسيُّوه عند تينة يابسة، ومع كل دورةٍ من الزمن يُسلِّمه فِـرِّيسيُّوه إِلى بيلاطُسِهِ، تَرتفع جلجلتُهُ، يَظن الجميع أَنه انتهى في العتمة، فإِذا به يُشْرِقُ ساطعًا في اليوم الثالث ويُدَحرج الحجر.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).