الولاياتُ المُتحدةُ: لا بُدَّ من طهران، وإن طالَ الفراقُ!

الدكتور فيكتور الزمتر*

في القاموس الإسرائيلي، لا فرق بين عربيٍّ وأعجميٍّ، فكلاهما في سلَّة واحدةٍ وفي مرمى الهدف، في حالة العداء. ومع ذلك، تُفردُ إسرائيل بعض الإعتبار إلى العجمي، لا تقديرًا، بل تحسُّبًا لردَّة فعله، الأمرُ الذي لا تُقيمُه للعربي عُمومًا.

فوقفُ إطلاق النار، الذي فرضَه الرئيس دوتالد ترامب بين إيران وإسرائيل، ما زال  صامدًا بدون انتهاكاتٍ إسرائيليةٍ، أقلُّه لتاريخه. وهذا، بحدِّ ذاته، التفاتةُ تمايُزٍ تُفردُها إسرائيل لإيران، عكس خرقها وتطاولها على الإتفاقات المُوقَّعة مع لبنان وفلسطين وسوريا.

لقد انتهت المُواجهةُ العسكريةُ الأخيرةُ، بين إسرائيل وإيران، إلى نتائج قد يصحُّ فيها القولُ أنٍّها لم تكن حاسمةً، بحيثُ خرج فريقاها بمُعادلة “خاسر خاسر”، وإنْ بنكهة “رابح رابح”!

لقد هاجمت إسرائيلُ إيرانَ تحت شعارٍ تدمير برنامجها النووي، وهذا شعارٌ زائف لاستحالة تحقيقه، طالما تعلَّقَ الأمرُ بامتلاك العقل الإيراني لناصية المعرفة التقنية للأسرار النووية. وعليه، جُلُّ ما تكونُ إسرائيلُ قد حقَّقته، بفضل التدخُّل الأميركي الحاسم، مُقتصرٌ على تأخير البرنامج النووي لبعض الوقت.

ولم يعُدْ خافيًا زِيفُ استخدام إسرائيل، الدولةُ النوويةُ الوحيدةُ في الشرق الأوسط، “للبُعبُع النووي الإيراني”، بدليل تقاعد هذا السلاح الفتّاك في قُمْقُم الردع، لا أكثر، مُنذُ ضربَتَي هيروشيما وناكازاكي (آب/أغسطس، 1945) والحربُ الروسيةُ-الأوكرانيةُ خيرُ شاهدٍ على ذلك. الحقيقةُ، إنَّ ما تبغيه إسرائيلُ من حربها على إيران، إنَّما هو قبع النظام الإيراني بِرُمَّته، واستبداله بنظامٍ على شاكلة نظام الشاه السابق، صديق إسرائيل والغرب، هذا إنْ لم تتمكَّنْ من تفتيته إلى كياناتٍ إثنيةٍ ومذهبيةٍ.

لقد شابَت نهاية حرب الأيام الإثني عشر مُفارقاتٌ والتباساتٌ، أوقفت الصراعَ على زغلٍ، وبشكلٍ فُجائيٍّ. فالرئيس ترامب، ضابطُ الإيقاع وفارضُه، اغترَّ بإعلان تدمير المفاعلات النووية الإيرانية، مُتعمِّدًا استخدام تعبير “المَحق” (obliteration)، دلالةً على جبروته، من دون أن يُدرك أنَّ هذا التعبيرَ “الماحقَ” سيقلبُ سحرَ الجبروت على الجبّار الساحر! إذ سرعان ما حامت الشكوكُ حول صُدقية هذا التعبير، من خلال تقريرٍ استخباراتيٍّ أميركيٍّ، تقاطعَ مع تصريح رفاييل غروسي، مدير “الوكالة الدولية للطاقة النووية”، وتضافرَ مع التقاط مخابرةٍ إيرانيةٍ، يُفيد جميعُها بأنَّ أضرارًا بالغةً حلَّت بالمُفاعلات، ولكن بدون تدميرها بالكامل.

إلى ذلك، لا بُدَّ أنْ يكونَ بنيامين نتنياهو قد استاءَ ممّا اعتبرَه تسرُّعَ الرئيس ترامب بفرض قرار وقف إطلاق النار، وهو الذي لطالما مَنَّ النفسَ باستدراج واشنطن إلى محاربة إيران أسابيعَ وشهورًا، حتى تركيعها. إلّا أنَّ نشوةَ نتنياهو بالضربة الأميركية، بعد ضغوطٍ هائلة من اللّوبي الإسرائيلي على سيّد البيت الأبيض، ما لبثت أنْ تلاشت، عندما تيقَّنَ بأنَّ ترامب غيرُ عازمٍ على الإنخراط المُباشر بالحرب، وبعد أنْ بانَ له أنَّ الضربةَ الخاطفةَ إنَّما هي من باب رفع العتب وانتشال الحليف اللَّصيق من ورطة الحرب على إيران، لا سيَّما بعدَ أن بدأت الصواريخُ الإيرانيةُ الدقيقةُ تفعلُ فعلَها، مُلقيةً الذُعرَ بالرأي العام الإسرائيلي، غير المُعتاد، أساسًا، على التدمير الباليستي النوعي، والعصيّ على “القبَّة الحديدية”.

إلتباسٌ آخرٌ شابَ فرضَ وقف الحرب، تمثَّلَ بجهل مصير الأربعمئة كيلو غرام من اليورانيوم المُخصَّب لدرجة 60%؜، وهي الكمية الكافية لإنتاج قنابل نووية عدة، خلال وقتٍ قصيرٍ، حالما تنجحُ إيران بتخصيبِها لدرجة 90%؜.

أمّا وقد تعرَّضت لهجمةٍ عسكريةٍ شرسةٍ، لا يُستبعَدُ أنْ تلجأ إيران إلى المُقامرة بصناعة القنبلة النووية، اتِّقاءً لها من هجمةٍ لاحقةٍ أكثرَ “مَحقًا”، إذ “لا يُلدَغُ المؤمنُ من جُحرٍ واحدٍ مرَّتين”، لا سيَّما إنَّ إيران لم تتَّعِظ كِفايةً من علقم التجارب، التي ذاقَها الرؤساءُ صدام حسين، مُعمَّر القذافي وبشار الأسد.

وتبقى الغرابةُ كامنةً في قلق العالم الغربي من تخصيب إيران اليورانيوم بنسبة 60%، في حين يغفلُ الغربُ عن حيازة إسرائيل لعشرات الرؤوس النووية، بقدر ما يغفلُ عن رُعونة الإنسحاب الأميركي، يوم 8 أيار (مايو) 2018، من “الإتفاق النووي الإيراني”، الموقَّع في 14 تموز (يوليو) 2015، والذي، بموجبه، سُمِحَ لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبةٍ لا تزيدُ عن 3.67%. لا عَجَبَ، إنَّها سياسةُ “الكيل بمكيالين”، التي يُتقنُها الغربُ، المُزدري بالعقول الخاملة!

إلى ذلك، ثمَّةَ تقاريرٌ لمراجع موثوقةٍ، تُفيدُ بأنَّه كانَ بمقدور إيران الإستحواذ على السلاح النووي، مُنذُ العام 2007، لولا الفتوى الدينية بتحريمها. أما اليوم، وبعد تعرُّضها للهجوم، قد يُفتى بتحليل التحريم، كسبًا لعُصمة الردع النووي، ومنعًا لشرب كأس السُمِّ ثانيةً. وفي حال لم يتمْ الإتِّعاظُ، دوليًا، من الدرس النووي الإيراني، فلا يُستبعَدُ أنْ تقتفي دُوَلٌ عديدةٌ المثالَ الإيراني، للحصول على الدرع النووي، كبطاقة تأمينٍ لسيادتها. وهنا تأتي مسؤوليةُ الدُوَل المُقتدرة، في إعادة النظر في سلوكها الأرعن، منعاً لتوسُّع النادي النووي وضنًّا بالسلم العالمي.

فعلى عاتق الرئيس الأميركي مسؤولياتٌ جسامٌ، ليس فقط بسبب تقمُّصِه بشخصية إطفائي الحروب، بل بسبب قيادته لأقوى دُوَل العالم، الأمرُ الذي يُلقي على منكبَيه مسؤوليةً أخلاقيةً تتصلُ بسلامة ومصير العائلة البشرية. لذلك، لا يكفي التنطُّحُ بالشعارات، التي تنقضُها الأفعال، مُنذُ وِراثة العم سام للنفوذ الأوروبي غداة الحرب العالمية الثانية، حيث تحوَّلت الولايات المُتحدة إلى آلة حربٍ وتسلُّطٍ، تناصر الباطل على الحقّ، ما شوَّه صورةَ أميركا الإنسانية!

وبالرُّغم من التخبُّط الذي شابَ نصفَ عامٍ من ولايته الثانية، ما يزال أمام الرئيس ترامب مُتسعٌ من الوقت، ليُثبتَ تحرُّرَه من مكائد الدَولة العميقة ومراكز الضغط، المُعتادة على تمريغ سُمعة ومِصداقية الولايات المُتحدة، في حروبٍ مُتناسلةٍ لا تُولِّدُ سوى الحقد عليها.

من هنا، كان الأحرى بالرئيس ترامب أنْ يُعيدَ بلادَه إلى الإتفاق النووي الإيراني، لا أنْ يَخضعَ لإملاءات مراكز الضغط المعروفة الهوى. ومن هذا المُنطلق، يُمكن البناء على عدم تورُّطه طويلًا بالحرب ضدَّ إيران.

إنَّ ثمَّةَ علاقةً جدليةً بين الولايات المُتحدة وإيرانَ، حدودُها من الودِّ والخِصام حدودُ ما في العُشقِ من الهيام والإنتقام. ومن نافل القول أنَّ هذه العلاقةَ ترتكزُ على مكانة إيران المُتفوِّقة في مُحيطها الجيوسياسي. فهي دولةٌ إقليميةٌ مِحوريَّةٌ، لجهة موقعها وامتدادها الجغرافي وثرواتها الدفينة، إضافةً إلى كتلتها الديموغرافية الوازنة وحضورها التاريخي العريق. فهي تتوسَّطُ غربَ آسيا وشرقَ القوقاز وتركيا وشمالَ شرق العالم العربي، وتتحكَّمُ بمضيق هرمز، عبر إطلالتها على المحيط الهندي . من هنا، أهميَّتُها الإستراتيجية بالنسبة إلى المصالح الأميركية.

ومُنذُ القرن التاسع عشر، تميَّزت العلاقات بين واشنطن وطهران بالتعاون لعقودٍ، طيلة حُكم السُلالتين القاجارية والبهلوية، باستثناء محطَّة 1953 (الإطاحة بالإصلاحي محمد مصدق) ومحطَّة 1979 (الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي). أمّا قِصَّةُ تدهوُر العلاقات بين البلدين، فقد بدأت مع نجاح الثورة الإيرانية، عندما ناصبَ النظامُ الجديدُ العداءَ للولايات المُتحدة، ما سبَّبَ طلاقًا قاسى منه الطرفان علقَمَ الفراق. ولم تُفلحْ مع هذا العِداء أساليبُ الترغيب والترهيب في إصلاح البين الدموي، ولا في وقف الدسائس والمؤامرات ولا في تعليق العقوبات والهجمات.

ومع ذلك، ليسَ من باب الهذيان الإعتقادُ بأنَّ واشنطن لم ولن تقطعَ الأمل بإعادة إيران “الضالَّة” إلى بيت طاعتها، بالرُّغم من الأضرار التي سبَّبَها كلٌّ منهما للآخر. فمن المنطقي أنْ تُولي الولاياتُ المُتحدةُ، المُتحسِّسةُ من صعود التنين الصيني، بالغ العناية لاستعادة إيران، بشكلٍ او بآخر، لما تُشكِّلُه من “واسطة العقد” في إحياء طريق الحرير الصيني القديم.

فللتذكير، سبق للصين أن أعلنت، في العام 2013، عن مُبادرة “الحزام والطريق”، مُتعهِّدةً باستثمار تريليون من الدولارات في البنى التحتية، لربط أكثر من ستين دولة في آسيا وأفريقيا وأوروبا في ما بينها. هذه المُبادرةُ الإقتصاديةُ غير المسبوقةُ في التاريخ، من شأنها، إنْ كُتبَ لها أنْ ترى النور، أنْ تُحقِّقَ التكامُل الإقتصادي بين غالبية دُوَل العالم القديم، بقدر ما تُؤسِّسُ لحتمية التكامل السياسي، ما يؤدّي حكمًا إلى تهميش النفوذ الأميركي في العالم.

من هنا، المصلحةُ الأميركيةُ في زرع الألغام في طريق “الحزام والطريق”، عبر التوصُّل مع إيران إلى نوعٍ من “ربط النزاع”. وفي السياق ذاته، شجَّعت واشنطن الهندَ، القطب الآسيوي المنافس للصين، على إقرار “مشروع الممرّ الإقتصادي، بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، (India Middle East Europe Economic Corridor)، والمؤلَّف من خطين: الخطُ الشرقي الرابط بين الهند والخليج، والخط الشمالي الرابط بين الخليج وأوروبا.

إنَّ عودةَ المياه، بين إيران والولايات المُتحدة، إلى مجاريها قبل الثورة الإيرانية، ليست بالأمر اليسير، بعد قرابة نصف قرنٍ من العداء المرير. ومع ذلك، تُراهنُ واشنطن على أنْ يُؤَدّي لَيُّ أذرُع إيران وقطعُ حبلِها السُرِّي مع سوريا والضربة الإسرائيلية الأميركية الأخيرة، بدون إغفال الرهان على انتفاضة الإيرانيين ضدَّ النظام، إلى عودة إيران إلى الحضن الأميركي.

وعلى كلِّ حالٍ، يبقى الأمرُ برسم ما يُقرِّرُه الشعبُ الإيراني، سليلُ الإرث الفارسي، الصانعُ الصَبورُ والتاجرُ المُحنَّكُ والمُثَقَّفُ المُنفتحُ والمُعتدُّ بتاريخه الأصيل، بانتظار أنْ تُفضي جدليةُ العلاقة بين العراقة والسذاجة، إلى قول كلمة الفصل!

  • الدكتور فيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى