نبيه بري، رئيس البرلمان الدائم في لبنان

منذ 1992 ونبيه بري رئيسٌ لمجلس النواب اللبناني، ويبدو أنه سيبقى رئيسًا ليس فقط لهذا المجلس، بل أيضًا لموته البطيء الطويل. ما لم تُواجَه مثل هذه الشخصيات والشبكات التي تدعمها -بدلًا من الاحتفاء بها- فلن يكونَ هناك طريقٌ حقيقي للمضي قدمًا في لبنان.

رنده بري: إلى أي حد تصدق الاتهامات ضدها؟

جون سميث*

في معظم الديموقراطيات، يُعَدُّ بقاءُ رئيس مجلس النواب في السلطة لأكثر من ثلاثة عقود حالةً شاذة، إن لم تكن فضيحة. في لبنان، يُنظَرُ إلى حُكمِ نبيه بري المُتواصل للبرلمان منذ العام 1992 على أنه مجرّدُ أثاثٍ سياسي – مُهيب، ثابت، وفي نهاية المطاف لا يُمَسّ. بري، البالغ من العمر الآن 87 عامًا، هو أكثر من مجرّد ناجٍ سياسي؛ إنه رمزٌ للنُخبة الراسخة غير الخاضعة للمُساءلة التي أشرفت على انحدار لبنان إلى الخراب الاقتصادي، والانهيار المؤسّسي، وانعدام أهمّيته الدولية.

بري، محامٍ بالتدريب وأميرُ حربٍ بالأصل، برزَ خلال الحرب الأهلية اللبنانية كزعيمٍ لحركة أمل الشيعية (“أمل”). ورُغمَ أنه كان في الأصل منافسًا ل”حزب الله”، إلّا أنَّ بري عزّزَ منذ زمن طويل تحالفًا مع الجماعة المدعومة من إيران، وشكّلا معًا الكتلة الشيعية المُهَيمنة في لبنان. إذا كان “حزب الله” هو القوة، فإنَّ حركة “أمل” هي الآلية – التي تُديرُ الدولة من الداخل، وتضمنُ بقاءَ الوزارات الرئيسة والعقود العامة في أيدي الموالين.

اليوم، يتقاسم الفصيلان الشيعيان النفوذَ على الدولة والمجتمع في لبنان. تُهَيمِنُ حركةُ “أمل” على بيروقراطية الدولة؛ بينما يُمسِكُ “حزب الله” بالسلاح.

مع أنَّ حركة “أمل” تدّعي العلمانية والقومية، إلّا أَّنَّ سياسات بري بعيدة كل البعد من ذلك. لعقودٍ، بنى قاعدةً شعبية في جنوب لبنان ووادي البقاع، حيث يُكافَأ الولاء بوظائف في القطاع العام وعقودٍ حكومية.

في ظلِّ هذه التشابكات بين سيطرة الدولة والمحسوبية السياسية، ازدَهَرَ بري وعائلته. وتمتدُ آلة المحسوبية هذه إلى ما هو أبعد من السياسة. فقد اتُّهِمَت زوجته، رنده بري، منذ فترةٍ طويلة باستغلالِ المؤسّسات العامة لتحقيق مكاسب شخصية، لا سيما في برامج التعليم والصحة. وزَعَمَ ناشطون أنها تمارِسُ سيطرةً غير مُبَرَّرة على المنظمات غير الحكومية ومشاريع المساعدات الدولية في الجنوب، حيث تُعتَبَرُ شبكات “أمل” الأقوى. ويَتّهمّها النقادُ بتحويل المؤسّسات العامة -وخصوصًا تلك المتعلقة بالتعليم والبرامج الاجتماعية- إلى إقطاعياتٍ للإثراء الشخصي.

في لبنان لا زالت الرقابة معدومة؛ والشفافية غير ذات صلة. وقد كان تورط عائلة بري المزعوم في اختلاس الأموال العامة واحتكار مشاريع التنمية المحلية موضوعًا شائعًا في وسائل الإعلام اللبنانية وشعارات الاحتجاج. وغنيٌّ عن القول إنَّ الشفافية ليست من قِيَمِ العائلة.

وبشكلٍ أكثر هدوءًا، ازدهرت عائلة بري الممتدة والأوسع أيضًا في ظلّه وتحت رعايته. أيمن زكريا جمعة، رجل أعمال في مجال الاتصالات، متزوجٌ من ميساء، إبنة بري، وهو رمزٌ للنُخبة الأوليغارشية في لبنان: يتمتع بعلاقاتٍ سياسية، وحركية اقتصادية، ومعزولٌ بشكلٍ ملحوظ عن المُساءلة. هذا العام، كان جمعة وشقيقه عماد جمعة -الذي يُزعَمُ عن تورّطه في صفقاتٍ تجارية مشبوهة عدة في العراق، وفقًا لمصدر حكومي عراقي- جُزءًا من الوفد اللبناني إلى قمة “SelectUSA 2025” للاستثمار في الولايات المتحدة.

قبل السفر إلى القمة، استضافت السفارة الأميركية في بيروت الوفد، وكرمت أعضاءه، بمن فيهم أيمن وعماد جمعة، علنًا في إطار مساعيها لتعزيز العلاقات الاستثمارية الأميركية. بالنسبة إلى العديد من اللبنانيين الذين يعيشون على حافة الفقر المدقع في اقتصادٍ مُنهار، كانت الصورةُ مثيرةً للغضب. هنا كان أقارب إحدى أقوى الشخصيات السياسية -وأكثرها استنكارًا- في البلاد، يتلقون مجاملات ديبلوماسية من واشنطن، بينما لا تزال مؤسسات الدولة اللبنانية نفسها تعاني من الفساد الذي ساهمت عائلهم في ترسيخه.

لكن خلف الكواليس، يبدو أنَّ هذا التسامح قد يتلاشى قريبًا. فوفقًا لمصدرٍ حكومي أميركي، يرى المسؤولون في واشنطن بشكلٍ متزايد أن تحالفَ بري الراسخ مع “حزب الله” يُمثّلُ عائقًا خطيرًا أمام تعافي لبنان. ومع تزايد الإحباط، تدرس إدارة دونالد ترامب الآن فرض عقوبات مُحددة – ليس فقط ضد بري نفسه، بل أيضًا ضد أفراد عائلته وأقرب مساعديه، الذين يُنظر إلى تغلغلهم في المؤسّسات العامة وشبكات الأعمال على أنه عاملٌ أساس في الخلل الوظيفي المُترسِّخ في البلاد.

هذه المُفارقة يصعبُ تجاهلها. فبينما قاوَمَ بري باستمرار الإصلاحات المدعومة من الولايات المتحدة، وعرقَلَ مفاوضات صندوق النقد الدولي، وتحالفَ مع إيران و”حزب الله”، لا يزال بإمكان دائرته المُقرَّبة الوصول إلى فعاليات الهَيبة الأميركية والمنصّات الديبلوماسية الناعمة. بالنسبة إلى المنتقدين، يُعَدُّ هذا مثالًا آخر على ازدواجية المعايير الغربية في المنطقة: إدانة الفساد ظاهريًا وتمكين المستفيدين منه عمليًا.

ومع أنَّ بري يُقدّمُ نفسه كوسيطٍ وسطي -بين المسيحيين والمسلمين، والسنّة والشيعة، والشرق والغرب- إلّا أنَّ سجلّه يُشيرُ إلى قصّةٍ مختلفة. لقد قاومَ باستمرارٍ أيَّ مبادرةٍ تقودها الولايات المتحدة في لبنان، من الإصلاحِ السياسي إلى شروط المساعدات العسكرية. في الواقع، لطالما مالَ ولاءه نحو طهران. خلال فترات التوتر الإقليمي، انحاز بري بثقة إلى الحسابات الاستراتيجية الإيرانية، مُرَدِّدًا خطاب “حزب الله”، ومدافعًا عن مصالحه السياسية.

نادرًا ما أدانَ، إن أدان أصلًا، حروبَ “حزب الله” الأحادية الجانب أو تحدّيه لسلطة الدولة. عندما تبادلت إسرائيل و”حزب الله” إطلاق النار في العام 2024، لم يلعب بري دور الوسيط إلّا بعد توقف القتال – حريصًا على عدم انتقادِ تهوُّرِ شريكه.

على الصعيدِ المحلّي، أدّى حُكمُ بري إلى حالةٍ من الشلل. أصبَحَ البرلمان تحت قيادته بمثابة ضريح، لا ينعقِدُ إلّا عندما تكون مصالحه أو مصالح حلفائه على المحك. أما الإصلاحات الرئيسة التي طالب بها المقرضون الدوليون -مثل إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو الحد من الزبائنية- فقد تم تأجيلها أو تخفيفها أو تخريبها.

لقد استخدمَ ألعابًا إجرائية وقواعدَ “إجماعٍ” غير رسمية لعرقلة التصويت، ودفن التشريعات، وإجهاض التحقيقات. وكان دوره في منع انتخاب رئيسٍ جديد للبلاد بين العامين 2022 و2024 رمزيًا: فقد رفض بري ببساطة الدعوة إلى جلسات تصويت حتى يتمكّن من إملاء النتيجة.

ورُغمَ كلِّ مناوراته، لا يتمتّعُ بري إلّا بشرعيٍة ضئيلة خارج قاعدته الشعبية المُتقلِّصة. فهو موضعُ استنكارٍ بين الشباب اللبناني، وخصوصًا أولئك الذين قادوا انتفاضة 2019. “كلهم يعني كلهم” هتفَ المُتظاهرون، لكن بري استُهدِفَ يومها بعنفٍ خاص أكثر من غيره. لطالما شُوِّهت شوارع بيروت برسومات غرافيتي كُتب عليها “بري= لص” أو “بري= سارق”. ومع ذلك، لا يزالُ صامدًا.

جُزءٌ من سبب بقائه هو النظام نفسه. يمنحُ نظامُ تقاسُم السلطة الطائفي في لبنان منصبَ رئيس مجلس النواب حصريًا للشيعة، وقد احتكرت حركة “أمل”، بقصورها الذاتي التاريخي وقوتها الغاشمة، هذا الدور. لكن جُزءًا من السبب دولي أيضًا. فالديبلوماسيون الغربيون والعرب، المُتردِّدون في استفزاز “حزب الله”، غالبًا ما تسامحوا مع بري باعتباره الشيعي “المقبول” – مُتناسين، أو متجاهلين، أنَّ سلطته تعتمدُ على الحفاظ على الخلل الذي يأملون في التغلُّب والقضاء عليه.

على الرُغمِ من أنَّ بري يُصوّرُ نفسه كصانع توازُنٍ سياسي -يُجسّد الانقسامات الطائفية ويتوسّط في الأزمات- إلّا أنَّ إرثه في معظمه إرثٌ من العرقلة. لقد كان البرلمان تحت قيادته مقبرةً للإصلاح. دُفنت فيه إجراءات المساءلة المالية الرئيسة. وتوقفت الانتخابات الرئاسية لسنوات. وتعرّضت التحقيقات في انفجار مرفَإِ بيروت والاحتيال في القطاع المصرفي للعرقلة والتخريب بمباركته الصامتة.

مع ذلك، لا يزال بري لا غنى عنه للنظام الذي ساهم في هندسته. تُحيطه السياسة الطائفية بالعزلة؛ وتُعامله الجهات الدولية الفاعلة، خوفًا من الفراغ، كشرٍّ لا بد منه. لكن في لبنان، فقد نفد الصبر. يُردد المتظاهرون اسمه بغضب. ثروة عائلته وظهورها يرمزان لإفلات النخبة من العقاب.

أن يتمكّن صهرُ بري وشقيقه المرتبط سياسيًا من حضور قمم الاستثمار الأميركية بينما يُواجه اللبنانيون العاديون انقطاعاتٍ في الكهرباء وانعدام الأمن الغذائي وتجميد حساباتهم المصرفية، ليس أمرًا مُسيئًا ومُشينًا فحسب، بل مُوَضِّحًا. إنَّ أزمة لبنان ليست عرضية. إنها نتاج استيلاء النخبة والتساهل الدولي.

يبدو لبنان الآن دولة فاشلة في كل شيء إلّا الاسم. انهارت عملته، ومؤسّساته خاوية، ونخبه أغنى من أيِّ وقت مضى. ورئيس مجلس النواب -الذي لم يتغيّر منذ 33 عامًا- يجلس في قلب الحطام. على الرُغمِ من كلِّ الحديث عن الإصلاح، فإنَّ بري يُذكّرنا بأنَّ مشكلةَ لبنان ليست مجرد سياسات سيئة، بل هي طبقة سياسية أتقنت فن البقاء بينما يموت البلد تحت أقدامها.

سيبقى نبيه بري رئيسًا ليس فقط لمجلس النواب اللبناني، بل أيضًا لموت هذا المجلس البطيء الطويل. ما لم تُواجَه شخصيات مثل نبيه بري والشبكات التي تدعمها -بدلًا من الاحتفاء بها- فلن يكون هناك طريق حقيقي للمضي قدمًا في لبنان.

  • جون سميث هو المدير السابق لمكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأميركية. وهو خبير في إنفاذ القانون يتمتع بخبرة تمتد لعقود في مجال المخاطر والعقوبات والامتثال.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية على موقع “American Thinker” الأميركي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى