في حديث الشعر (15)

هنري زغيب*
كتبتُ في حلقة سابقة أَنْ لا نتعصَّب للشكل، بل أَن نهتمَّ بما يقدِّمُه لنا المضمون، وما ينضح عنه من جمال. فلا فنَّ حقيقيًا خالدًا على الزمان إِلَّا الذي يخضع لمقاييس الجمال.
هنا لمحةٌ عن الشكْل غير المأْلوف، إِنما أَليف الجمال.
وَفْق المعنى
قد يعمد الشاعر إِلى التخلِّي كلِّيًّا عن الشكل التقليديّ (صدرًا وعَجُزًا في كتابة عمودية)، وإِلى “نثْر” أَبياته على الصفحة وَفْقَ المعنى، وَفْقَ تَنَفُّسِ العبارات والكلمات، كما يُنْثَرُ الزَّهرُ باقةً إِلى الحبيبة، لا قاعدةَ معلَّبَةً لها، إِنْ هو إِلَّا الذوق والحس بالجمال، شرطَ أَن تكونَ الزهراتُ نَديَّةً طبيعيةً، ليس فيها مصطنعٌ ولا مُزَيَّفٌ ولا مُعَقَّدٌ ولا مستعار.
بهذه الطريقة، يَستخدم الشاعر مختَلَفَ أَشكالِ الشعر التي اعتادها القراء في القصائد: مرةً يتركُ البيتَ كاملًا بِشَطْرَيْه (صدْرًا وَعَجُزًا):
هكذا نحن، منذ كنا، منارٌ تشتهيه لِمَحقِه الشُطآنُ
ومرةً يتركُ البيتَ كاملًا بدون قَطْعٍ نصفيّ:
هكذا نحن، منذ كنا: منارٌ تشتهيه لِمَحقِه الشُطآنُ
ومرةً يتركُ التفعيلةَ الواحدة على سطرٍ وحدها:
هكذا نحن
منذ كنا

منارٌ تشتهيه لِمَحقِه الشُطآنُ
ومراتٍ يتركُ المعنى يَتَّخِذُ الشكلَ الذي يحتاج إليه.
كلُّ ذلك في شكلٍ سَلِسٍ يراعي انسيابَ المعنى، ولا يَقْطَعُهُ حُكْمًا لأَنَّ الشكلَ التقليديَّ يفرِضُ أن يُقْطَعَ حُكْمًا عند آخر الشطر صدْرًا أَو عَجُزًا.
هذا الشكل الانسيابي يَظْهَرُ غالبًا عند إِلقاء القصيدة، حين يتلو الشاعرُ الأَبيات بحسب المعنى لا وَفْقَ شكل الأَبيات التقليديّ: كلمات مُقَوْلَبَة في صدْرٍ وعَجُزٍ يَقطَعُ بالإِلقاء نَفَسَهُ والمعنى عند منتصفِ البيتِ ولو كان المعنى لم يكتملْ بعد.

الجمال قبل الحبيبة
قبل أَن يكونَ الكتابُ بَثًا رومنطيقيًا عاطفيًا في الغَزَل، يجب أَن يكون شعرًا في خدمة الجَمال، الجمالِ النَقِيِّ البَهِيِّ الذي يقول كلَّ شَيْءٍ، كلَّ شَيْءٍ، من دون أَن تَجرحَ كلمةٌ منهُ حَياءَ امرأَةٍ، أَو خَفَرَ صَبِيَّةٍ، أَو عِفَّةَ ناسكةٍ في خَلْوَتِها.
هذه العودةُ إِلى الجمال، نحتاجُها في كتابة الشعر، كي يَعودَ الشعر إِلينا.
ليس صحيحًا أَنَّ الناس استقالُوا من الشعر، بل هم أَشاحوا عن شعراء أَبعدوا الشعر عن الناس سائغًا حبيبًا. ومتى عُدنا بكتابَتِهِ إِلى بساطة الوردة (رغم الصعوبة في صياغة بَتْلاتِها)، وإِلى جمال غروب الشمس (رغم التعقيد في تركيباته العلْمية الداخلية)، وإِلى كَرَّةِ العندليب العذبة (رغم ما خلْفها من هيكليات بيولوجية)، نكونُ حقًّا عُدنا بالشعر إِلى الناس، لا بالناس إِلى الشعر.
عُشَّاق الشعر يحبُّونه سائغًا كَهَفيف العطْر منسابًا في حنايا الحبيبة، لا كالعطْر المعقَّد يستلزمُ شرحًا وإِفاضاتٍ في فَكْفَكَةِ مكْنوناته وأَسرارِه وتركيباته الكيميائية والمَخْبَرية قبل أَن يصبحَ عطْرًا ويصل إِليهم.
وحده الجمالُ في الشعر، طريقُهُ المباشَرُ إِلى قلوب الناس.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.