زهرات فان غوخ حيَّةٌ في نيويورك (2 من 2)

زائرتان تتأمَّلان الزهر

هنري زغيب*

مقهورًا مات. ويرجِّحُ دارسون أَن يكونَ انتحر، وهو لم يَبِع من مجموعته الكثيرة سوى لوحةٍ واحدة. ولعلَّه حين انطفَأَ النُور في عينيه، كان مُوْقنًا أَنْ سيَجيْءُ يومٌ تكون فيه للوحاته قيمةٌ فنية، قد تَشقُّ لها نهجًا خاصًّا في عالم الفن التشكيلي. وإِنه هكذا، بعد غيابه، وبفضل جُوانَّا زوجة شقيقه تيو، وهي حافظَت على أَعماله وعرفَت كيف تسوِّقها، أَخذَت لوحاته تنتشر، وتُباع في المزادات حاصدةً أَعلى الأَسعار في العالَم.

وهذا معرض في نيويورك لأَزهار دوَّار الشمس كما أَحَبَّ رسمها. فصَّلتُه في الجزء الأَول من هذا المقال، وهنا الجزء الآخر.

معرض نيويورك قسمان: أَزهار رسَمَها فان غوخ في باريس، وأُخرى رسمها في آرْلْ.

فماذا عن كل قسم؟

أَزهاره مكبَّرة في المعرض

المرحلة الباريسية

أَيام كان يعيش في باريس، رسم فان غوخ (1853-1890) أَربع لوحات من دثوَّار الشمس هي: “أَربع زهرات ذابلة من ثوَّار الشمس”، لوحتان بعنوان واحد “زهر دوَّار الشمس”، وزيتية بعنوان “أربع زهرات دوَّار الشمس ذاهبة إِلى البذار”. وفي كل لوحة تبدو الزهرات على الأَرض أَو على الطاولة، مع تفاصيل دقيقة جدًّا في الرأس والساق، تتضح فيها براعة فان غوخ في اللون والرُقشة.

وهو وجد راحةً في رسم تلك الأَزهار وتأَمُّلها. ربما لذلك قد تكون هي الأَفضل لديه بين سائر لوحاته. ومثله كان معجبًا بلوحاته عن زهر دوَّار الشمس، صديقه بول غوغان.

مرحلة آرْلْ

سنة 1888 شعر فان غوخ بالضجر وبأَنه مهمش في باريس وسط محيطها الواسع، فقرر الانتقال جنوبًا، واستقرَّ في مدينة آرْلْ. ولدى استقراره فيها شعر برغبة مشرقة في الرسم، وخصوصًا في العودة إلى رسم دوَّار الشمس. وبذلك كتب إِلى شقيقه تيو: “أَشعر هنا أَنني أَرسم بشهية مَن يلتهم صحن شورباء في مطعم مرسيليا”.

وبالفعل، رسم بتلك “الشهية” خمس لوحات لزهر دوَّار الشمس، معظمها عن دراسات له للزهر في إِناء. وإِلى الأُسلوب المغاير والعرض المختلف عن لوحاته في باريس، تختلف أَيضًا من حيث الأَلوان. ففي آرْلْ أَدخل فان غوخ على الأَزهار ظلالًا من الأَصفر، معتبرًا أَن اللون الواحد بتماوجات مختلفة لا ينتقص من أَناقة اللوحة.

اليوم، يضم النقَّاد لوحات دوَّار الشمس تلك في مجموعة واحدة، فيما لم يكن فان غوخ يقصد لها أن تتوحد في مجموعة. فلوحتاه في آرْلْ: “إِناء فيه 12 زهرة” و”إِناء فيه 14 زهرة”، جعلهما في مجموعة مع لوحتَيْن أُخرَيَيْن : “أُوغستين رولان” و”أُوغست رودان (كان جلس إِلى فان غوخ ليرسمه).

وهو ذكر هذا الجمْع بالذات في رسالة له: “إِذا صفَفْتَ لوحة أُغوستين في الوسط، بين لوحتَي دوَّار الشمس، تتشكَّل لدينا ثلاثية جميلة، يتأَلَّق فيه اللونان الأَصفر والبرتقالي”.

سنة 1889 رسم فان غوخ نسختَين أُخريَيْن من تينِكَ اللوحتين، لم تكونا بالسُطُوع ذاته كما الأُولَيَان. مع ذلك كتب في تلك الرسالة: “كنتُ أَود أَن أَرسم 12 نسخة منهما، فتكون لدينا 12 ثلاثية هي سمفونيا تترجح بين الأَزرق والأَصفر”.

أَمَّا لِمَ كان ينوي أَن يرسم تلك النسخ من دوَّار الشمس، فلأَن تلك السمفونيا تذكِّر بلَوحة “البيت الأَصفر” (بيته في آؤْلْ) ومنها ينضح الأَزرق والأَصفر.

فان غوخ يرسم أَزهاره، بريشة صديقه بول غوغان

إِرث زهر دوَّار الشمس

كما كان فان غوخ يحلم بمحترف خاص به يرسم فيه، ولم يتحقق حلمه، كذلك لم يتحقَّق حلمه برسم 12 ثلاثية من دوَّار الشمس. فحتى وفاته في آرْلْ لم يكن رسم سوى 7 مجموعات، لم يبق منها اليوم للعرض العام سوى خمس (2 أَصليتان و3 نسخ)، السادسة موجودة لدى مجموعة خاصة منذ 1948، والسابعة أُتلفَت في حريق جرى سنة 1945.

مع ذلك، لا تُمكن رؤْية الخمس معًا، فهي موزعة على متحف لندن الوطني، ومتحف فان غوخ في أَمستردام، ومؤَسسات أُخرى في العالم. وهي على كل حال هشَّة للنقل، معرَّضة للتفتُّت، وهي غالية جدًّا على أَصحاب تلك المؤَسسات حتى أَنهم يرفضون إِخراجها من عندهم لعرضها في أَيِّ مكان آخر أَيًّا تكن أَهمية هذا المكان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى