العراق يُصارِعُ تداعياتَ الحربِ الإسرائيلية-الإيرانية والخلافَ النفطي مع كردستان

في غيابِ اتفاقٍ بين إسرائيل والولايات المتحدة وإيران بشأن البرنامج النووي الإيراني المُتبقّي، من المُرجَّح أن يندلع المزيد من القتال، حيث ستظل لهجة العراق تجاه تل أبيب حادة.

وكيل وزارة الخارجية العراقية لشؤون العلاقات الثنائية، السفير محمد حسين بحر العلوم، يستقبل القائمَ بأعمال سفارة الولايات المتحدة الأميركية في بغداد، ستيفن فاجن.

السفير روبرت فورد*

سلكت الحكومة العراقية على الدوام مسارًا مُتوازنًا بين الحفاظ على العلاقات السياسية مع جارتها إيران وحلفائها داخل العراق من جهة، والحفاظ على علاقتها الأمنية مع الولايات المتحدة من جهة أخرى. ولم يكن مفاجئًا أنَّ الحكومة العراقية سارعت إلى الترحيب باتفاق وقف إطلاق النار الذي توصّلَ إليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 23 حزيران (يونيو) بين إسرائيل وإيران. وأكّدَ بيانُ وزارة الخارجية أنَّ الاتفاقَ “خطوةٌ إيجابية للحدِّ من التصعيد وتعزيز الاستقرار”. ورُغمَ أنَّ ردَّ الوزارة كان يُشيرُ إلى خَفضِ التصعيد الإقليمي والاستقرار، إلّا أنه يمكن تفسيره أيضًا على أنه ينطبُق على العراق نفسه، حيث تسعى الحكومة في بغداد إلى كبحِ جماح الميليشيات الموالية لإيران، وفي الوقت نفسه، إلى احتواء التحدّيات الاقتصادية الناجمة عن الحرب الإسرائيلية-الإيرانية والنزاعات المستمرّة مع حكومة إقليم كردستان في أربيل.

الأطياف السياسية العراقية توَحّدت في إدانة الهجمات الإسرائيلية

سارَعَت الحكومة العراقية إلى إدانةِ الهجمات الإسرائيلية الأوّلية على إيران في 12/13 حزيران (يونيو)، واصفةً إياها بـ”الانتهاك الصارخ للقانون الدولي والعمل العدواني”. وجاء هذا الإعلان عقبَ اجتماعٍ عاجلٍ عقده رئيس الوزراء محمد شياّع السوداني مع القائم بأعمال السفارة الأميركية ستيفن فاجن والجنرال كيفن ليهي قائد قوات التحالف الدولي المنتشرة في العراق. كما انتقدت مجموعةٌ من السياسيين العراقيين والشخصيات الدينية الشيعية الهجوم الإسرائيلي بشدة. وكان أبرزها البيان الفوري الصادر عن مكتب المرجع الديني آية الله علي السيستاني، الذي وصف الهجوم الإسرائيلي بالجريمة، وكرر دعوة رئيس الوزراء للمجتمع الدولي للتدخُّل ووقف الهجمات الإسرائيلية على إيران. حتى رئيس حكومة إقليم كردستان، مسرور بارزاني، ندّدَ علنًا بالهجمات، واصفًا إياها بتهديدٍ للاستقرار الإقليمي، ودعا المجتمع الدولي إلى التحرّك لوقف الأعمال العدائية. إنَّ السيطرة الإسلامية الشيعية على الحكومة الفيدرالية في بغداد، إلى جانب النفوذ الإيراني بين الزعماء العراقيين، فرضت ضرورةَ إدانةٍ عامة قوية للضربات الإسرائيلية، ولكن ضعف الجيش العراقي نفسه يجعل أيَّ عملٍ حكومي يتجاوز الإدانة اللفظية صعبًا.

ورُغمَ الانتقادات اللاذعة، أكدت الحكومة العراقية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل عدم رغبتهما في جرِّ البلاد إلى الحرب. وحثّت كلتاهما على خفضِ التصعيد في المواجهة، وأصرّتا على عدم استخدام الأطراف المتحاربة للأراضي أو المجال الجوي العراقي في عملياتها. وأعربت السلطات الكردية العراقية عن قلقها تحديدًا من احتمال شنّ هجمات إيرانية واسعة النطاق ضد القوات العسكرية الأميركية المنتشرة في القاعدة الجوية في منطقة حرير، على بُعدِ حوالي 20 ميلًا شمال شرق أربيل، ونشرت قوات إضافية من البشمركة.

كانت الانتهاكات المُستَمرّة للمجال الجوي العراقي من كلا الجانبين، خلال المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية، مسألةً حسّاسة للغاية بالنسبة  إلى بغداد، على الرُغم من أنَّ غالبيةِ انتقاداتها كانت موجهة إلى إسرائيل. أدان سياسيون عراقيون، بمَن فيهم رئيس الوزراء وأعضاء البرلمان، إلى جانب مسؤولي الميليشيات وشخصيات المجتمع المدني، بشدّة التحليق الإسرائيلي. قدمت وزارة الخارجية العراقية شكوى رسمية عاجلة في 13 حزيران (يونيو) إلى مجلس الأمن الدولي بشأن استخدام الطائرات والصواريخ الإسرائيلية للمجال الجوي العراقي. كما أثار السوداني الانتهاكات في اجتماعاته مع ديبلوماسيين أميركيين وبريطانيين، وفقًا لوسائل إعلام عراقية. في 14 حزيران (يونيو)، صرّحَ المتحدث باسم القوات المسلحة العراقية أنَّ اتفاقية الإطار الاستراتيجي الثُنائية بين واشنطن وبغداد تُلزِمُ الولايات المتحدة بمنع الانتهاكات الإسرائيلية للمجال الجوي العراقي. ووفقًا لوكالة “شفق نيوز”، أكّدَ وكيل وزارة الخارجية لشؤون العلاقات الثُنائية العراقي حسين بحر العلوم -وهو ليس معارضًا قويًا للولايات المتحدة- للقائم بالأعمال الأميركي في بغداد في 21 حزيران (يونيو) أنَّ الانتهاكات الإسرائيلية المُتكرّرة للمجال الجوي العراقي “لا تُقَوِّضُ السيادة العراقية فحسب، بل تُهدّدُ أيضًا سلامة الطيران المدني”. وأكّدَ على الإهانة التي تُمثّلها عمليات التحليق الإسرائيلية فوق المدن العراقية الجنوبية والخطر الذي يُهدّدُ العمليات في مطار البصرة الدولي، وهو المطارُ الوحيد في البلاد الذي لم يغلقه وزير النقل العراقي ردًّا على اندلاع الأعمال العدائية.

وعلى ما يبدو، لم يَكُن هذا الموقف العراقي نابعًا من الداخل فحسب: فقد ضغط الإيرانيون أيضًا على بغداد لمحاولة وقف تحليق الطائرات والمُسَيَّرات الإسرائيلية فوق العراق في طريقها إلى ضربِ أهدافٍ في إيران، وهي نقطةٌ أثارها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان علنًا في 16 حزيران (يونيو). ومن غير المستغرب أنه لم يُسمَع أيُّ شيءٍ من المسؤولين العراقيين بشأنِ انتهاكات إيران المُتكرّرة للمجال الجوي العراقي خلال ضرباتها الانتقامية. وتخشى بغداد من أن تؤدّي الضربات الإسرائيلية (والأميركية) التي تُحلّقُ فوق العراق إلى ردودِ فعلٍ إيرانية تستخدم أيضًا المجال الجوي العراقي، مما يُعرّضُ للخطر الجهود العراقية للبقاء بعيدًا من الصراع ويقوّضُ أمن البلاد.

وإدراكًا منها لضعفها الأمني ​​الحرج، فقد اشترت بغداد بطاريات دفاع جوي من كوريا الجنوبية؛ لكن هذه الأنظمة الدفاعية لن تبدأ بالوصول قبل أشهر، حسبما صرح وزير الدفاع العراقي ثابت محمد سعيد العباسي لوسائل الإعلام في 19 حزيران (يونيو). وفي الوقت نفسه، تدرس الحكومة الفيدرالية كيفية الاستفادة بشكلٍ فعّال من اتفاقية الأجواء الاستراتيجية لضمان الضغط الأميركي على إسرائيل لوقف استخدام المجال الجوي العراقي.

حساباتُ إيران والميليشيات المُتحالفة معها

بغضِّ النظر عن الخلافات بشأنِ إسرائيل والضربات على إيران، لا بغداد ولا حكومة إقليم كردستان تريدان أن تتأثّرَ علاقاتهما مع الولايات المتحدة نتيجةً لهذه الأزمة. حثّت الحكومة العراقية، بهدوء ولكن بحزم، الميليشيات المُوالية لإيران في العراق على عدم إطلاق الصواريخ على إسرائيل. ووفقًا لصحيفة “المدى” المطّلعة في 22 حزيران (يونيو)، لم تسمح قوات الأمن العراقية للمتظاهرين بالاقتراب من السفارة الأميركية في بغداد. وبعد أن استفاقت الحكومة العراقية من رَوعِها وقلقها بعد سحبِ الموظفين غير الأساسيين من البعثة الديبلوماسية في البداية، وَجَّهَت تحذيرًا صارمًا للميليشيات الموالية لإيران لتجنُّب استهداف الأميركيين. تجدرُ الإشارة إلى أنه بينما تحدث رئيس الوزراء السوداني في 23 حزيران (يونيو) مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن الأزمة، لم تُبلِّغ حكومة بغداد عن أيِّ اتصالاتٍ مُماثلة مع مسؤولين رفيعي المستوى في واشنطن؛ بل لجأت بدلاً من ذلك إلى التواصل مع الموظفين العاملين في السفارة الأميركية. تُريدُ بغداد دعمًا أميركيًا مستدامًا لقواتها الأمنية، لا سيما أنها تُفكّرُ في تداعيات سقوط حكومة بشار الأسد في سوريا المجاورة واحتمال عودة المُتطرّفين السُنّة هناك. كما يرغب الإسلاميون الشيعة الذين يشكّلون العمود الفقري لحكومة السوداني في الحفاظ على علاقة أمنية مع واشنطن، لكنهم في الوقت نفسه يرغبون في إحباطِ أيِّ تحرُّكٍ أميركي لسحق الميليشيات المدعومة من إيران بعنف.

من المهم الملاحظة بأنَّ الميليشيات تستمعُ إلى دعوات السياسيين الإسلاميين الشيعة لضبطِ النفس. وعلى الرُغم من التحذيرات السابقة بأنها ستنتقم من الولايات المتحدة وإسرائيل إذا هاجم أيٌّ من الطرفين إيران، فإنَّ هذه الجماعات المسلحة الموالية لطهران، والتي تُطلِقُ على نفسها اسم “المقاومة العراقية”، قد اقتصر ردّها على الإدانات اللفظية للهجمات الإسرائيلية. ومن الجدير بالذكر أنها لم تُدِن الهجوم الأميركي في 21 حزيران (يونيو) بشكلٍ مباشر. وأفادت “المدى” في 24 حزيران (يونيو) أنَّ فريد الجزائري من المكتب السياسي لإحدى أهم الميليشيات، “عصائب أهل الحق”، أكّد في مقابلة تلفزيونية أنَّ القتالَ كان “حربًا تكنولوجية” وأنَّ إيران لم تكن بحاجة إلى دعمٍ عسكري من “المقاومة العراقية” حتى الآن. وبمزيد من الصراحة، قال مهدي الكعبي من ميليشيا “النُجباء” المهمة في ظهورٍ تلفزيوني آخر إنَّ التدخّلَ في القتال يتطلّبُ “حسابات دقيقة، لا عواطف”. وأشار الكعبي إلى أنَّ الدفاعَ عن إيران “واجبٌ مشروع، وهناك مصالح عراقية كبيرة يجب حمايتها أيضًا”، مُضيفًا أنَّ إيران سُتقرّرُ ما إذا كانت ستضرب أهدافًا أميركية في العراق والأردن والخليج. كما أشارَ إلى وعيه بالنقاشات داخل الولايات المتحدة، مشيرًا إلى مخاوف في الكونغرس من وجود 40 ألف “رهينة” أميركي -جنود أميركيون متمركزون في الشرق الأوسط- تحتَ رحمة الصواريخ الإيرانية. وقال إحسان الشمري، المحلل العراقي وأستاذ العلاقات الدولية والاستراتيجية في جامعة بغداد، لصحيفة “المدى” إنَّ الميليشيات تُدركُ أنَّ مهاجمةَ الأميركيين ستكون انتحارًا، وستؤدي أيضًا إلى ضرباتٍ أميركية انتقامية في جميع أنحاء إيران. ورأى أنَّ حسابات الميليشيات ستتغير إذا هدّدت ضربات أخرى بقاء النظام الإيراني أو إذا تعرّضت الميليشيات لضربةٍ مباشرة. حتى الآن، لا توجد أي إشارة إلى أنَّ طهران حثّت أو تحثُّ الميليشيات على إطلاق النار على الأميركيين أو إسرائيل.

زاوية النفط

يُعدّ قطاع النفط العراقي سببًا آخر لرغبة بغداد وأربيل في انحسار الأزمة. تُشكّلُ صادراتُ النفط مُعظمَ عائدات التصدير العراقية وأكثر من 80% من إيرادات الموازنة الحكومية. ومن شأن التهديدات الإيرانية بتعطيل حركة ناقلات النفط عبر مضيق هرمز لفترة طويلة أن تُهدّدَ الاقتصاد العراقي بشكلٍ مباشر. علاوةً على ذلك، بعد أن بدأت إسرائيل مهاجمةَ أهدافٍ إيرانية، قامت شركات طاقة كبرى، بما في ذلك “بي بي” (BP) و”إيني” و”توتال”، بإجلاء معظم موظفيها المغتربين العاملين في حقول النفط الجنوبية العراقية، وهي الأكبر في البلاد. وأصدرت شركة نفط البصرة المملوكة للدولة بيانًا في 23 حزيران (يونيو)، مُدّعيةً أنَّ مستويات إنتاج النفط لم تتأثر، وأنَّ العديد من المغتربين واصل عمله مع الموظفين العراقيين عن بُعد. وتعمل شركات صينية وروسية أيضًا في حقول النفط الجنوبية، لكن تأثير القتال على مواطنيها لم يكن واضحًا. في غضون ذلك، أدى إغلاق الحكومة لمعظم المجال الجوي العراقي بين 13 و26 حزيران (يونيو) إلى تقطُّعِ السُبُل بالمسافرين العراقيين والأجانب، وتكبدت الحكومة رسومًا على عبور شركات الطيران للأجواء العراقية. وبالتالي، كانت لدى بغداد أسبابٌ اقتصادية قوية لدعم التهدئة السريعة في القتال.

التطلُّع إلى المستقبل

نشأت الأزمة الحالية في الوقت الذي كانت الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان تُصارعان مشاكل داخلية مُلحّة أخرى. وقد وصل الخلاف المُستمر حول صادرات النفط وعائداته بين الجانبين إلى طريقٍ مسدود في شباط (فبراير)، وهذه المرة بسبب قرار بغداد وقف تمويل رواتب موظفي حكومة إقليم كردستان. عادةً ما تُحال القضية إلى المحكمة الاتحادية العليا، لكن هذه الهيئة هي في حالةٍ من الفوضى بعد استقالة تسعة من قضاتها الذين اشتكوا من التدخُّل السياسي في عملهم. ويتعيّنُ على المحكمة العليا أيضًا التصديق على نتائج الانتخابات البرلمانية المُقبلة في تشرين الثاني (نوفمبر)، والتي من المُتوقع أن تتشكَّلَ حكومة جديدة بناءً عليها. وبالتالي، سينشغل القادة العراقيون بمشاكلهم الداخلية بينما يراقبون التطورات بين إسرائيل وإيران عن كثب.

في غيابِ اتفاقٍ بين إسرائيل والولايات المتحدة وإيران بشأن البرنامج النووي الإيراني المُتبقّي، من المُرجح أن يندلعَ المزيدُ من القتال، حيث ستظل لهجة العراق تجاه الدولة العبرية حادة. وتُشيرُ الحكومة العراقية بانتظام إلى “الكيان الصهيوني” و”العدوان الصهيوني”.وقد أكد رئيس الوزراء السوداني في مقابلةٍ مع “سكاي نيوز” في 15 أيار (مايو) أنَّ العراق لن يُطبّعَ العلاقات مع إسرائيل. ويُحظّرُ قانونٌ صدرَ في العام 2022 التواصُلَ بين المواطنين العراقيين وإسرائيل؛ ويَتّهمُ بعضُ السياسيين العراقيين السلطاتَ بالتغاضي عن النفط المُصدَّرِ من كردستان العراق عبر تركيا إلى إسرائيل. لذا، حتى لو استمرَّ وقفُ إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، فمن غير المرجح أن ينضمَّ العراق إلى أيِّ خطواتٍ قريبة من قِبَل دول عربية أخرى لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.

  • روبرت فورد هو زميل ديبلوماسي متميز في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. وهو ديبلوماسي أميركي متقاعد شغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى الجزائر من العام 2006 إلى العام 2008 وسفير الولايات المتحدة لدى سوريا من العام 2011 إلى العام 2014.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى