تونس: ماذا حلَّ بكِ بعد انتفاضة 2011؟ (1)

عبد اللطيف الفراتي*

المفاجأة كانت لي كبيرة عندما قرأتُ رقماً رسمياً: لقد انخفض الناتج الداخلي الخام التونسي في الأسعار الثابتة من 45 مليار دولار سنة 2010 إلى 38  مليار دولار سنة 2020، ما يعني أنه مع التزايد السكاني هناك انحدارٌ للدخل الفردي بحوالي 30  في المئة. وهو ما يُلاحَظ بالعين المجردة في تدهور المقدرة الشرائية العامة، إلّا بالنسبة إلى “أزلام” النظام الجديد الذي حلّ ككارثة على الفرد التونسي، وخصوصاً على الطبقات الشعبية، فتراكمت ثرواتٌ للحفاة العراة ـ  وليس في ذلك تقليلاً من شأن أحد ـ ظاهرة وخفيّة في آنٍ داخلياً وخارجياً في وقتٍ تعاظمت المديونية من حوالي 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقارب 100 في المئة، بدون قدرةٍ على السداد باعتبار أن تلك المديونية، لم تذهب كما كان يحصل قبل 2010 إلى الاستثمار وزيادة الثروة وتحقيق التشغيل، بل  إلى النفقات النثرية، أيّ إلى أجورٍ غير مُبرَّرة، الأمر الذي أضاف إلى الناتج أو إلى موازنة الدولة أرقاماً خيالية، لعلّ تونس سباقة فيها. وما زالت المطلبية قائمة على قدم وساق، فيما الانخرام في أوضاع المؤسسات العمومية، ما زال مُتفاقماً. وفي حين كانت تساهم هذه المؤسسات بأرباحها، إن كانت لها أرباح، في الموازنة العامة، باتت تُثقل بعبئها تلك الموازنة، التي  أصبحت  في حالٍ من الهشاشة بحيث باتت الدولة على حافة الإفلاس، وزاد الدعم غير العقلاني وغير العادل في الوضع سوءاً.

إن بعضاً من التونسيين يعيدُ  أسباب هذه النتائج إلى الديموقراطية، والحريات المُنفلتة بحيث لا تستقيم الكرامة الوطنية. ولكن، إذا نظرنا بعمق إلى حقيقة الأشياء، فإننا نلاحظ  أنه كلّما سادت الديموقراطية والحريات في بلدان العالم كانت الكرامة الوطنية مُرادفاً لها.

فلماذا، عندما جاءت الديموقراطية عندنا لم تُحقّق الرفاه، بل على العكس حدث التراجع وازداد الفقر والفوارق المجتمعية بين الأفراد والجهات؟

سؤالٌ ينبغي أن نطرحه على أنفسنا، حيث أن “تمظهراته” لا تُلاحظ فقط في شكوى الناس من غلاء المعيشة بشكل حاد، بل في الاقتصاد الكلي وأرقامه المُفجعة.

في البلدان الأخرى جاءت الديموقراطية بعد ثوراتٍ عنيفة أو سلسة، لكنها أفرزت نخباً قادرة على الحكم. وفي تونس قامت ثورة، إن قبلنا أن نسميها ثورة، حيث لم يسبقها فكر ولا قيادة ولا برامج واضحة. ولكن دعنا نسميها ثورة، باعتبارها مكّنت من التخلص من حكم مُستبد شاركت نخبٌ كبيرة في التحضير لها وتلقفتها حشود شعبية واسعة انطلقت بها من سيدي بوزيد والقصرين، مروراً بصفاقس بأكبر مظاهرة في تاريخها، ولعلّ أيضاً في تاريخ البلاد، انتهاءً بالعاصمة تونس في 14 كانون الثاني (يناير) الذي سيخلده التاريخ، كنقطة تحوّل بعد الهروب غير المُشرّف لرئيس الدولة آنذاك، زين العابدين بن علي، فسجّل الشعب انتصاراً، وأصاب ذلك بالذهول وسوء المفاجأة القائمين على نظامٍ لم يكن أحدٌ يعتقد أنه سيهوى بتلك السهولة كقصرٍ من ورق.

في سنة 1984 وبعد ثورة الخبز، إلتقيت بمحمد مزالي لإجراء حوار صحافي لصحيفة خارجية، فافتخر أمامي بزياراته الأسبوعية لضواحي العاصمة. وقلت له بدون مواربة: ” كنتم تجمعون المواطنين بالحافلات، ولكن عندما جدّ الجد لم تجدوا في صفوفكم مَن يقف في شعبكم الدستورية ليدافع عن مقرّاتكم حتى بالمكانس، فاغتُصِبت وسُرِقت منها الوثائق إن لم يُحرَق بعضها”. تلك حال الأحزاب الحاكمة في البلدان المتخلّفة، وسيتكرر دلك مرات عديدة في تونس وفي غيرها من الديكتاتوريات، وإن غلّفت نفسها بمظاهر الديموقراطية والذي سنتحدث عنه في وقته.

(يتبع)

عبد اللطيف الفراتي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي تونسي. كان سابقاً رئيس تحرير صحيفة “الصباح” في تونس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى