لنا آلهة كما لهم آلهة

عبد الرازق أحمد الشاعر*

صناعةُ الآلهة حِرفةٌ تناقلتها الأجيال منذ عصور ما قبل التاريخ. وكأن الإنسان لم يرد للآلهة أن تتفرد بشيء لا يستطيعه، فخلقها كما خلقته، ودافع عنها بكل ما أوتي من حمق كي تُدافع عنه بكل ما أوتيت من عجز، وكان له في ذلك نوادر خلّدتها كُتبُ التاريخ لا تملك إلّا أن تمرّ بها على استحياء وأنت تُطالع بعض مراحل النضج التي مرّ بها العقل البشري في تدرّجه المُتعرّج نحو الكمال.

عن سماك بن حرب قال، قلتُ لجابر بن سمرة أكنت تُجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، كثيراً. كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام. وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويبتسم. فقال أحدهم: ما نفع أحد صنمه مثل ما نفعني، قالوا: كيف هذا؟ قال صنعته من الحيس فجاء القحط، فكنت آكله يوماً فيوماً. والحيس خليط من اللبن والتمر والسمن.

وفي رواية مشابهة، يذكر العقاد في عبقرية عمر، أن الفاروق كان يجلس ذات صفاء بين أصحابه، فإذا به يضحك، ولم يكن ثمة سبب للضحك. ولما سأله أصحابه عن سبب ضحكه، قال أنه تذكّر كيف كان يصنع الأصنام في الجاهلية من تمر، فيظل يتعبّد إليها، فإذا جاع أكلها.

كلُّنا نصنع أصناماً يا بن الخطاب فنظل لها عاكفين. فمنّا من يأكل إلهه، ومنّا من يأكله إلهه. لكن الآلهة لا تصنع في عصرنا من عجوة بالضرورة – لعلّكم كنتم أوفر حظاً منّا هنا. وليس من الضرورة أن تصنع من حجر أو صلصال ممزوج بلبن العنز أو من خشب أو قرميد أو من ذهب حتى كما كنتم تفعلون. كما أننا لا نعبدها لتقرّبنا إلى الله زلفى كما كان بعض غلاة المُشركين يدّعون كذباً وافتراءً على الله.

فتماثيل اليوم أكثر تعقيداً وأكثر حذقاً وحِرَفية من تماثيل الأمس. فهي تارةً من هلام وخيالات لا تصلح للأكل أو لتبوّل الثعالب. وأخرى من هوى متبع، وإعجاب بالنفس والرأي والمُعتقد. وثالثة، من لحم ودم، كانت على هيئة حاكم أو صاحب منصب أو وجاهة أو حتى حارس عقار. والأشد والأكثر فتكاً، تلك الآلهة التي يصنعها الشعراء والمُفكّرون من أجساد النساء.

يكفي أن تعلم أن قيساً كان يمر بديار ليلى ليُقبّل الجدران، ويطوف بشرفتها لا لينظر إليها، بل لينظر إلى قمرٍ يطلّ على بيتها. وكأن للبادية قمراً ولبيت ليلى قمر آخر لا يُشرق إلّا حينما تطل عليه ليلى. ثم نكتشف أن هذه الليلى لا تعدو أن تكون سوداء حبشية لو لم يبزغ القمر لما رآها أحد. ويمر قيس على جماعة من المصلّين وهو يطارد كلب ليلى لعلّه يقوده إليها، فيُعاتبه الناس لأنه لم يُصلِّ معهم، فيقول لهم: والله ما رأيتكم! ولو كنتم تحبّون الله كما أُحبُّ ليلى، لما رأيتموني.

لم نتوقّف يوماً عن نحت الآلهة، ولا عن الجلوس المُهين تحت أقدامها نستجدي العون ونطلب المدد الروحي أو النفسي أو الجسدي حتى. ثم نقضمها قطعة قطعة حال الانتهاء من جلوسنا المُذل أمامها في مشهدٍ مُهين، ثم نكرر الفعلة مرات ومرات كلما اقتضت الحاجة أو دعت الضرورة.

لكن الذي يستدعي الإعجاب فعلاً، هو قدرة الإنسان على التحرّر من عبادة الوثن أو الشيطان الذي ظلّ عليه عاكفاً حيناً من الدهر. تلك اللحظة التي يمدّ فيها العابد يديه وربما أسنانه إلى منحوته، فيهدم بيديه أساطير الوهم التي سجد أمامها طويلاً. العبرة بتمرّد القيس على ليلاه ليراها مُجرّد قطعة منحوتة من اللحم الملوّن، وأنها لا تختلف عن بنات جنسها إلا بفضل الإزميل الذي استخدمه هو في شق تفاصيلها غير الواقعية.

اللحظة المُلهمة تتمثّل في قدرة الإنسان على هدم الصنم الذي صنعه بيديه، وتمرّد جبينه على السجود له. يتمثل في اللحظة التي يرتدّ فيها المرء بصيراً ليُعلّق الفأس فوق رقبة التمثال الأشل، أو ليحرق العجل الذي صنعه من ذهب وينسفه في اليم نسفاً. اللحظة المُلهمة تتمثّل في استعادة المرء لوعيه المفقود وحكمته الغائبة، فيضحك ساخراً من ليالٍ قضاها عابداً زاهداً لإلهٍ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. الإفاقة هي المعجزة وليس الغياب، وعودة الوعي هي الغاية وليس الاستمرار في الغيّ واستمراء الضلال.

لكلٍّ منّا إلهه الذي لم يقربه إلى الله زلفى، بل باعد بينه وبين الحقيقة والحق آلاف الفراسخ الروحية، وكلّنا بحاجة إلى صفعةٍ مدوية جاءت على يد نبي شديد كموسى حين أحرق عجل بني إسرائيل الذهبي أمام أعينهم المُحتقنة أو على يد سيدة رقيقة كفاطمة ابنة الخطاب التي رفضت أن تعطي الصحيفة التي تقرأ فيها ما أنزل على محمد لأخيها عمر حتى يغتسل. نحتاج إلى ثورة على الأصنام التي صنعناها قبل أن نبدأ معراجاً فعلياً نحو السماء ونحو الحرية ونحو الله.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى