من عقدِ القرارات إلى عقدِ الخراب: هكذا تَعمَل الأشياء في الشرق الأوسط!

بقلم البروفسور بيار الخوري*

في كتابه “عقدٌ من القراراتِ السياسية الأميركية تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي 1967-1967”) منشورات جامعة كاليفورنيا 1977) يقرأ مساعد مستشار الأمن القومى الأميركي السابق وأحد المشاركين في وضع اتفاقية كامب دايفيد، وليام كوانت، في ظروف ومُقدّمات الدخول السوري الى لبنان بطريقةٍ تُغاير الفرضيات المختلفة لتلك المرحلة التي شكّلت مُنعَطفاً في مسار الحرب الأهلية وتطور لبنان اللاحق.

بالنسبة إلى كوانت لم يكن هناك اتفاقٌ او تفويضٌ أميركي لسوريا، بل إن ذلك الدخول حصل بدفعٍ أميركي خفي وتَضافر وتنافر المصالح الإقليمية .

كانت المنطقة تتحضر للصلح المنفرد بين مصر والدولة العبرية، وكان إنجاحُ ذلك الصلح في رأس أولوّيات الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وهو ما دفع الولايات المتحدة للقبول بأي شيء لمنع تدخّل إسرائيل للجم التمدّد الفلسطيني في لبنان في ظل انهيار الدولة المركزية. كانت إسرائيل تستعد لحربٍ واسعة لكسر هيمنة منظمة التحرير الفلسطينية على لبنان ومنع إنشاء بؤرةٍ لليسار الدولي على حدودها. وقد رفض وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، التهوّر الإسرائيلي لأنه يُهدّد مشروع كسب مصر إلى الصلح وفصل مصر عن سوريا بعد اتفاقية فصل القوات.

كان المرحوم كمال جنبلاط يُخطّط لحسم الحرب الأهلية انطلاقاً من أعالي جبل لبنان حين زاره موفد الرئيس الأميركي وقتذاك جيرالد فورد، السفير دين براون، مُنوّهاً بالبرنامج الوطني للاصلاح السياسي وإشارته إلى أن برنامجاً كهذا ربما يصلح ايضاً لدول الغرب والولايات المتحدة، لا فقط لدولة عالم ثالثية كلبنان. كانت تلك اشارة كافية لجنبلاط لافتراض وجود عدم مُمانعة أميركية لمشروع التغيير في لبنان.

السفير نفسه كان يقول لزعماء الموارنة أن أميركا غير قادرة على مساعدتهم وأن اسرائيل ملجومة بانتظار أول صلحٍ عربي-اسرائيلي: ليس لكم سوى الأسد!

على مقلبٍ آخر كان العاهل الأردني  الملك حسين بن طلال والرئيس السوري حافظ الاسد يناقشان مخاطر الصلح المُنفرد ومخاطر أن يبقى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات مُتحكّماً بالورقة اللبنانية في ظل الاتجاه نحو حلٍّ جزئي للصراع العربي-الإسرائيلي قد يستطيع معه الرئيس المصري أنور السادات إنتاج صيغة مع الإسرائيليين تكون منظمة التحرير الفلسطسنية جزءاً منها بالإستناد إلى قوّة الإمساك بالورقة اللبنانية.

لم تتفق سوريا والمملكة الهاشمية يوماً كما اتفقتا وقتذاك: يجب منع ياسر عرفات من الذهاب الى صلح منفرد يعزل سوريا وينهى نفوذ الاردن على الاراضي الفلسطينية المحتلة.

الصورة التي عرضها كوانت تقول أن كل المُتَخَيَّل عن مؤامرة أميركية-سورية على منظمة التحرير الفلسطينية غير واقعي، والصيغة الأسلم أن الولايات المتحدة عرفت كيف تعمل الأشياء وكيف تُحرّك رقع الشطرنج وفقاً لمصالح اللاعبين من دون الإضطرار للإعتراف بتلك المصالح. وتقول أيضاً أن الرئيس الأسد قد خاطر بعلاقته بحليفه الأكبر الإتحاد السوفياتي وتَواجَهَ مع منظمة التحرير تحديداً بسبب طريقة عمل تلك الأشياء.

بالنسبة إلى كوانت كان التدخل السوري في لبنان بديلاً من التدخّل الإسرائيلي، ويخدم مصالح متنوعة ومختلفة لا المصلحة السورية تحديداً (وهذا يختلف عن تقييم الصحافي البريطاني الراحل باتريك سيل القائل أن الدخول السوري جاء لمنع تدخّلٍ إسرائيلي). الفارق بين الاستبدال والمنع حسمهما التاريخ بان النتيجة في الحالتين كانت واحدة.

نعود اليوم الى احتمالات أن تعود سوريا للإمساك بالملف اللبناني وفقاً لما يتناهى عن المفاوضات الخليجية-السورية التي يفترض ان تُعيد الوئام الى العلاقات العربية-العربية بعد عقدٍ من الخراب. هل تذهب سوريا في اتجاه لجم “حزب الله” كما لجمت سابقاً منظمة التحرير الفلسطينية؟ هل تُعيد الولايات المتحدة إطلاق يد سوريا في لبنان من دون الاضطرار للإعتراف بمصالحها فيه؟ هل يؤدي ذلك لتوتر العلاقات الايرانية-السورية كما حصل بين سوريا والاتحاد السوفياتي في العام 1976؟ هل يكون التدخّل السوري بديلاً من عملية اسرائيلية واسعة ضد “حزب الله” أو مانعاً لهذه العملية؟ هل ترغب الولايات المتحدة بهذا التدخّل كي لا تُهدّد أي عملية إسرائيلية المفاوضات النووية مع طهران؟

الاسئلة كثيرة والاحتمالات أكثر!

لكن هناك حقائق جديدة اليوم تمنع احتمال تكرار سيناريو السبيعينات الفائتة، أوّلها أن اسرائيل الدولة المُحتَكِرة للتفوّق العسكري في الشرق الاوسط وقتذاك لم تعد كذلك، وأن سوريا التي كانت لاعباً إقليمياً كبيراً وقتذاك هي دولة مُحتَلّة من جيوشٍ عدة اليوم، والثانية أن سوريا ليس لديها ما تخسره من نفوذ إيران في لبنان، على العكس كلّما اشتدّ نفوذ طهران هنا كلّما نظر العالم الى اعتدال الأسد مُقارنةً بآيات الله. والثالثة أن الشرق الاوسط لم يعد حديقة خلفية للولايات المتحدة وبريطانيا وملعب تدريب للجيش والمخابرات الإسرائيلية. أما آخر الحقائق فإن سوريا لم تعد في الوسط كما كانت أيام الأسد الأب، لذلك فالتنازل الأساس المطلوب اليوم خليجياً هو ثمن إعادة سوريا الى الوسط بما يسمح باحتواءٍ ودّي سوري ل”حزب الله”.

لقد تغيّر الشرق الأوسط كثيراً في نصف قرن: احتُجِزَت منظمة التحرير الفلسطينية في رام الله، سقطت أنظمة العراق وليبيا والجزائر الراديكالية ولكن… بقي الأسد! وهذا ما يجب على الغرب ودول الخليج دفع ثمنه.

الزمن الذي كتب عنه كوانت كان مليئاً بالرجال الذين لا يُمكن خداعهم، وهذا الزمن هو زمن الرجال الذين لا داعي لخداعهم فلعبة الأمم باتت عارية جداً.

  • البروفسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي.يُمكن التواصل معه على: info@pierrekhoury.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى