الديبلوماسية: مِصداقية وإبداعية

الديبلوماسية هي علمُ أو فن التفاوض.

 

بقلم السفير جان معكرون*

خلال عملنا الديبلوماسي في الخارج، غالباً ما نُواجَه في محيطنا الإجتماعي بتحدّياتٍ جمّة، منها التعرّض لانتقادات قد تكون في محلّها وقد لا تكون. لكن من واجبنا أن نستمع إليها ونقبلها لكي نستفيد من أخطائنا ونبني عليها كما علّمنا المثل الصيني: “من أخطائنا نكتسب الخبرة ومن خبرتنا نكتسب الحكمة”.

إنّ من أهم واجبات الديبلوماسي الهدوء في الطباع والصدق والدقّة والتواضع، وذلك وفقاً لتوصيات السياسي والكاتب البريطاني “هارولد نيكولسون”، لكن إذا صدفَ أن غضِبَ الديبلوماسي أو تصرّف بعصبيّة أو فقدَ السيطرة على نفسه، فإنه سيكون عرضةً للإنتقاد واللَوم والمُحاسبة من قبل الغير، وتكون التهمة الرئيسة المُوَجّهة إليه: أنت ديبلوماسي، فلا يجدر بك أن تغضب. وكأنه كُتِبَ على الديبلوماسي أن يكون محكوماً دائماً بضبط النفس، ومُجرَّداً من عواطفه، أو أن يكون مُلقَّحاً ضدّ فيروس الغضب.

خلافاً للشاعر أو الكاتب، فإنّ الديبلومسي غير محظوظ في التعبير عمّا يخالجه من عواطف وشعور. فالشاعر ينطقُ بما ضاقَ به صدره ويُعبّر بصدق عن أحاسيسه وعواطفه. في حين أنّ الديبلوماسي مُلزَمٌ بترويض عواطفه وغربلة أفكاره وتمويه نواياه ورغباته، بهدف إرضاء مخاطبيه وعدم إغضابهم أو جرح شعورهم. ويُمكن القول إنّ سرّ نجاحه لا بل مصلحته يقضيان بعقلنة شخصيته. وهكذا، نرى أنّ الديبلوماسي محكومٌ باتّساع صدره، وإذا صدفَ أن ضاقَ صدره بشيء، فإنه ينطقُ ويُعبّرُ بعينيه وقلبه، هذا إذا لم يسكت قلبه نهائياً من شدّة ضيق صدرِه.

إنّ قاموس الديبلوماسية غنيّ جداً بالتعريفات وفقاً للزاوية التي يُنظَر إليها من خلالها. فرجُل الدولة البريطاني “أنطوني إيدن” عرّفَ الديبلوماسية بأنها وسيلة تهدف إلى التخفيف من التوتّر وإلى الترويج للتفاهم، في حين اعتقد آخرون بأنها ترتكز على تجنّب قول الحقيقة أو على الكذب كما اعتقد السفير الفرنسي لدى بريطانيا (1830-1834) شارل-موريس دو تاليران عندما عرّف الديبلوماسية بأنها “كذبٌ ونكران” (Diplomacy is lie and deny).

ومن هذه النافذة، نطلّ على التعريف الشهير الذي اقترن بإسم الديبلوماسي والسياسي البريطاني هنري وُطُّن” (Henry Wotton) والذي يردّده جميع الديبلوماسيين: “السفير هو رجلٌ صادق أُرسلَ إلى الخارج من أجل أن يكذبَ لمصلحة وطنه”.

أما كومورا جوتارو، الذي خدم سابقاً وزيراً لخارجية اليابان، فقد عُرفَ بعبارته المتمايزة بأنه “يتوجّب على الديبلوماسي أن يستعمل أذنيه وليس لسانه”. ونحن نرى أنّ الوزير الياباني على حقّ، وما يؤكّد وجهة نظره ما ورد في رسالة القدّيس يعقوب – العهد الجديد من الكتاب المقدّس -: “أما اللسانُ فما من إنسانٍ يقوى على قمعه، إنه شرٌّ لا ينضبط، مفعمٌ سُمًّا قتّالاً”.

إنّ من يَهوى قراءة ما كُتِبَ عن الديبلوماسية يلاحظ أنّ العديد من الكتّاب المرموقين قد وصفوها بأنها “علمُ أو فنُّ التفاوض” (Diplomacy is the science or art of negotiation) “البارون شارل دو مارتان”(Le Baron Charles de Martens).

فالتفاوض هو أساس التفاهم، ليس فقط قبل نشوء النزاع بل أيضاً بعده، كما يرعى العلاقات الثنائية والمُتعدّدة الأطراف إضافةً إلى التواصل مع الأعداء والشركاء في سبيل تقاسم المغانم وكذلك التواصل بهدف بلوغ تسوية بين الأطراف.

لكنّ منطق التفاوض والتواصل مع الغير يجابِه عملياً مطبّات عديدة، لذلك ينبغي مراعاة بعض الأصول والشروط. وفي هذا الإطار، تبدو مقولة السير ألِيك دوغلاس هيوم – رئيس الحكومة البريطانية في العام 1963 – معبّرة جداً والواردة في صحيفة التايمز بتاريخ 9/5/1996: “على الديبلوماسي أن يُفكّر مرّتين قبل أن يقول شيئًا”. كما أضاف أنه من المفيد أن يستعمل الديبلوماسي الكلمات التالية: “صحيح، مُناسب، مُحتَمَل، مُلائم”. واعتبر أنه من الأفضل أن يعتمد الديبلوماسي أسلوب “الحرباء” (chameleon) القادرة على تغيير لونها حسب المكان الذي تطأه، أي المراوغة بمعنى آخر. كما أسهب دوغلاس هيوم في التحدّث ذاكراً أنه إذا قال الديبلوماسي “نعم”، فذلك يعني “ربما”، أما إذا قال ربما فيعني “لا”، لكن لا يجوز له أن يجيب بكلمة “لا”. وخلُصَ إلى الاستنتاج بأنّ الديبلوماسية هي فنّ التزحلق على الجليد مع وجوب التنبّه إلى عدم السقوط في المياه الدافئة.

وفي هذا الصدد، أتذكّر أنني التقيتُ في العام 1996 خلال مشاركتي في اجتماعات المنظمة البحرية الدولية في لندن بديبلوماسي فرنسي، وبينما كنّا نتحدّث عن الصفات الديبلوماسية، أشار إلى أنّ قاموس الأكاديمية الفرنسية للعام 1832 قد تضمّن ما يفيد “أنّ الحكيم يُحرّك لسانه سبع مرّات قبل أن يتكلم”، لكنه أضاف أنه يتوجب على الديبلوماسي أن يُحرّك لسانه سبع مرّات، ليس قبل أن يتكلم بل قبل أن يصمت”.

ولا شكّ أنّ المقصود هنا هو أن يدركَ الديبلوماسي تماماً ما ستؤول إليه نتائج وعواقب كلامه وتأثيره السيّىء عليه، في حال نطق بالشرّ أو بالخطأ، لأنّ الكلمة التي تخرج من الفم أو التي يخطّها القلم لا يُمكن استردادها، وقد يدفع ثمنها غالياً في حال كانت في غير محلّها، أو سبّبت ضرراً للغير، أو اندرجت في خانة الخطأ الجسيم. واستزادةً في تحليل التعريفات البارزة للديبلوماسية، لفت انتباهي التعريف الآتي: “الديبلوماسية هي أن تفعل وتقول الأسوأ بالطريقة الألطف”. وهذا يعني أن تنقل إلى الغير الخبر السيّىء سواء كان انتقاداً أم إنذاراً أم لوماً بطريقة لطيفة يستسيغُها الطرف الآخر من دون أن يغضب أو تصدر عنه ردّة فعل عنيفة. إنّ هذا الأداء الديبلوماسي يتطلب مهارةً عالية وقدرة على ضبط النفس لدى الطرف الأول، ولكي نُجسّد عملياً هذا الأسلوب الديبلوماسي نعطي في ما يلي المثل التالي:

لنفترض أنك في معرِض توجيه النقد إلى الغير، وبدلاً من أن تخاطبَه قائلاً: “لقد أخطأت أو أنتَ مُخطئ فتثير غضبه، فتعمد إلى تبديل صيغة التخاطب فتقول له: لو كنت مكانك في حالةٍ مماثلة، لاعتبرت نفسي مُخطئاً، فعندها يصبح الانتقاد سلساً ولطيفاً وبذلك تكون الرسالة قد وصلت بطريقة مقبولة إلى الطرف الآخر.

أما إذا أردنا أن نُعطي مثلاً على أداءٍ غير ديبلوماسي وغير مألوف، أو مُندَرج تحت عنوان الخطأ الجسيم، فنشير إلى أنه في 12/10/1960، نزع نيكيتا خروتشوف، السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي، حذاءه أثناء الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة وضرب به على الطاولة بقوة، وذلك اعتراضاً على خطاب رئيس الوفد الفليبيني الذي هاجم فيه السياسة الخارجية للاتحاد السوفياتي في أوروبا واصفاً إيّاها بالاستعمارية.

لا بدّ لنا هنا من التحدّث عن أصل أو مصدر كلمة ديبلوماسي (Diplomat). تُشير المراجع الديبلوماسية إلى أنّ هذه الكلمة قد استُعملت لأوّل مرّة في العام 1645 وهي مشتقّة من كلمة يونانية “ديبلوما” (Diploma) التي تعني طوي أو ثني مستند رسمي  بطريقة مزدوجة قبل منحه أو تقديمه. وكان العالِم والفيلسوف الألماني غوتفريد فيلهلم ليبنيز والبارون الفرنسي “جان دومون” (Jean Dumont) قد نشرا في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر مجموعة معاهدات ومستندات رسمية متعلّقة بالعلاقات الدوليّة يتولاّها رسميون تحت هذا العنوان باللغة اللاتينية “ديبلوماتيكوس” (Diplomaticus)، إضافةً إلى العنوان الفرنسي “ديبلوماتيك” (Diplomatique).

ثمّ ما لبث “إدمون بيرك”، رجل الدولة الإيرلندي-الإنكليزي أن استعمل في العام 1796 عبارة “Diplomatic Body” أي الجسم الديبلوماسي أو الهيئة الديبلوماسية، وكلمة “ديبلوماسية” (Diplomacy) الدالّة بنظره على مهارة ولباقة ولطف وصدق وذكاء الديبلوماسي.

ورُبَّ سائلٍ يسأل، أيّهما أفضل، أن يكون الديبلوماسي محبوباً بفضل لطفة ولياقته، أو أن يكون مُحترَماً بفضل مصداقيّته؟

صحيحٌ أنّ اللطف يُسهّل عمل الديبلوماسي، لكنّ الصدق والمصداقية يجعلان منه موضع ثقة واحترام الآخرين. وخلافاً لما اعتقده مكيافيللي عندما عرّف الديبلوماسية بالمراوغة والخداع لأنّ الصدق هو مفتاح نجاح الديبلوماسي. وكان “جول-مارتان كامبون”  (Jules-Martin Cambon)، السفير الفرنسي المعروف بدوره البارز في مفاوضات السلام بين الولايات المتحدة وإسبانيا في أواخر القرن التاسع عشر، قد أكّد “أنّ الأداة الأفضل المتوافرة لحكومة تُريد إقناع حكومة أخرى تبقى دائماً الكلمة الصادرة عن رجلٍ صادق”.

تعلّمتُ الديبلوماسية من يسوع المسيح

حيث يُستفاد ممّا تقدّم أنّ الديبلوماسية تتمايز في أحد أوجهها في القدرة على التعامل بلباقة ومهارة مع المواقف الحرِجة، إضافةً إلى التكيّف مع الغير من دون إغضابه مهما كَبُر استفزازه.

وكنت أتساءل عن السلوك العملي الذي يتوجّب على الديبلوماسي اعتماده في مواقف مُماثلة إلى أن لفتَ انتباهي مقطعٌ مهمّ في الفصل 13 من إنجيل مرقس في الكتاب المقدّس. يتحدّث هذا المقطع عن محاولة الفرّيسيّين اليائسة الإيقاع بيسوع المسيح ليجدوا فيه مأخذاً في كلامه لكي يُسلّموه إلى حكم الوالي وسلطانه فسألوه قائلين: “يا مُعلّم، نحن نعلم أنك صادق وتنطق بالحق، هل يجوز أن ندفع الجزية لقيصر أم لا؟”. أدرك يسوع مكرَهم فقال لهم: “أروني ديناراً”. وسألهم: “لمن الصورة عليه؟”، فأجابوا: “لقيصر”.

عند ذلك، قال لهم: “أدّوا ما لقيصر لقيصر وما للّه إلى الله”. فلم يجد الفرّيسيّون في كلامه أي مأخذ عليه أمام الشعب فسكتوا.

وتعليقاً على هذا المقطع الجميل، أقول إنّ يسوع المسيح استطاع أن يقول الحقيقة بأسلوب ديبلوماسي مُتمايز من دون أن يُغضبَ أحداً. لأنه إذا قال لهم إدفعوا الجزية لقيصر، فإنه سيُحرج ويُغضب اليهود الرازحين تحت الاحتلال الروماني. أما إذا قال لا تدفعوا الجزية، فإنّ هذا الجواب سيُغضب الرومان أصحاب السلطة. لذلك، يمكن القول إنّ يسوع أرضى الطرفين ببراعةٍ فائقة وخرجَ سالماً بعد أن نجح في التعامل مع الفرّيسيّين مُجابهاً استفزازهم بمرونة وحكمة بالغة.

ووفقاً لهذا المقطع المعبّر، أستطيع القول أنّ يسوع المسيح أرسى نهجاً ديبلوماسياً يُحتذى به.

  • الدكتور جان معكرون هو كاتب وسفير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى