هُزِمَ تنظيم “الدولة الإسلامية” لكنه لم يَنتَهِ بعد

على الرغم من أن تنظيم “الدولة الإسلامية” خسر أخيراً معقله في بلدة هجين، فإن غياب الإستقرار داخل الأراضي المُتنازَع عليها يمنح للتنظيم فرصاً من أجل البقاء في سوريا والعراق والإستمرار في عملياته الإرهابية وزعزعة الإستقرار.

إنفجار منبج: لم يكن الأول ولن يكون الأخير

بقلم منى العلمي*

في 16 كانون الثاني (يناير)، تبنّى تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) هجوماً إرهابياً على مدينة منبج السورية قُتل خلاله 14 شخصاً. يأتي ذلك بعد شهر واحد فقط على إعلان مسؤولين من قوات سوريا الديموقراطية المدعومة من الولايات المتحدة في 14 كانون الأول (ديسمبر) الفائت أنهم طردوا الجماعة الإرهابية من هجين، آخر معقل عسكري لها في سوريا. وكما يتبيّن من هذا الحادث ما زال التنظيم الإرهابي قادراً على شنّ هجمات في محافظتَي الرقة ودير الزور في سوريا، وحول كركوك في العراق، لا سيما في محافظتَي صلاح الدين وديالى وفي محيطهما. في كلا البلدَين، يستغل تنظيم “الدولة الإسلامية” في الوقت الراهن غياب الإستقرار والقانون داخل الأراضي المتنازع عليها مقروناً بالخصومات العربية-الكردية العميقة، والمظالم المحلية التي لم تلقَ معالجات، والأجندات الأمنية المتضاربة.
في حين أن التقارير لا تأتي على ذكر جميع الهجمات التي تقع في سوريا والعراق، فإن قدرة التنظيم على الصمود تبدو واضحة من خلال هجماته المستمرة في مختلف أرجاء وادي الفرات. في 13 كانون الأول (ديسمبر) الفائت، كتب الموقع الإخباري الكردي “روداو” (Rudaw) أنه في غضون شهر واحد فقط، شنّ “داعش” أكثر من 143 هجوماً على قرى واقعة في منطقة خانقين العراقية المتنازع عليها، ما أرغم السكّان على مغادرة منازلهم. وفي اليوم التالي، أعلنت الشرطة الاتحادية العراقية أنها فكّكت 50 أداة متفجّرة ناسفة في منطقة كركوك التي شهدت عودة نشاط “الدولة الإسلامية”. إن هذه التقارير تعكس زيادة ملحوظة في هجمات التنظيم الإرهابي في منطقتَي كركوك وخانقين خلال العام المنصرم، واللتين تُعتبران شديدتَي الهشاشة كونهما منطقتَين متنازَع عليهما. لطالما طالبت حكومة إقليم كردستان بضم المنطقتَين اللتين تحتضنان عدداً كبيراً من الأكراد، مع العلم بأن بغداد تُعارض بشدّة السعي الكردي إلى ضمّهما، لا سيما ضم كركوك الغنية بالنفط. في تشرين الأول (أكتوبر) 2017، إستخدمت الحكومة العراقية إستفتاء الإستقلال الكردي ذريعةً لفرض سيطرتها من جديد على الأراضي المُتنازَع عليها بعدما كانت خاضعة للأحزاب الكردية، لكن ذلك أدّى إلى استفحال التشنّجات المحلية وولّد التباساً حول تحديد الجهة المسؤولة عن مسائل مثل الأمن المحلي.
هناك قوى أمنية عدة ومتعددة تعمل في كركوك وخانقين، وهي تحديداً البشمركة الكردية، والشرطة الإتحادية العراقية، والجيش العراقي ووحدات مكافحة الإرهاب التابعة له، ووحدات الحشد الشعبي المثيرة للجدل، ما يُترجَم إطاراً أمنياً معقّداً حيث التنسيق ضئيل لأن الخصومات تُعطّل التواصل بين هذه المجموعات. وقد قال مسؤول كبير في الجيش العراقي: “إستطاع “داعش” أيضاً إستغلال الخصومة بين بغداد وإربيل”، مضيفاً أن الأفرقاء المحليين يغضّون الطرف عن نشاط “الدولة الإسلامية” عندما يسعون إلى ممارسة ضغوط على خصومهم. كما أن السكان السنّة لا يثقون، في معظم الأحيان، بالقوى المحلية، لا سيما الشرطة الإتحادية ذات الأكثرية الشيعية وقوات الحشد الشعبي، وهم أقل استعداداً لإطلاعها على نشاط “داعش”.
لا يزال التنظيم الإرهابي ناشطاً أيضاً في محافظتَي الرقة ودير الزور في سوريا. فعلى الرغم من إنسحاب مقاتلي “الدولة الإسلامية” من هجين في 14 كانون الأول (ديسمبر)، فإنه لا يزال يُشَنّ هجمات بصورة منتظمة في الرقة. على سبيل المثال، ذكرت صفحة “الرقة تُذبح بصَمت” عبر موقع فايسبوك، في التاسع من كانون الثاني (يناير)، أن تنظيم “الدولة الإسلامية” شنّ هجوماً على قاعة المحكمة في المدينة، وعلى قاعدة قوات سوريا الديموقراطية في الرقة في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) الفائت. واستمرّ التنظيم أيضاً في تبنّي عمليات اغتيال، منها إغتيال الشيخ بشير فيصل الهويدي من عشيرة العفادلة النافذة – التي تُعتبَر من أكبر العشائر في شرق سوريا – بإطلاق النار عليه في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، فضلاً عن تفجير مقر حزب سوريا المستقبل في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، وهو حزب تابع للإتحاد الديموقراطي الكردي وقوات سوريا الديموقراطية.
إلى جانب هذه الهجمات، يحول انعدام الثقة دون حدوث تعاونٍ واسع بين السكان الذين يتألفون بغالبيتهم من العرب والأجهزة الأمنية ذات الأكثرية الكردية، ما يُتيح مجالاً أكبر أمام الدولة الإسلامية للتحرك.3 يشتكي العرب المقيمون في الرقة مما يعتبرونه هيمنة كردية على الرقة ودير الزور.4 فعلى الرغم من أن المجلس المحلي لمدينة الرقة يقوده بصورة مشتركة رئيسٌ كردي وآخر عربي، لا يزال السكان المحليون يشعرون بأن الأكراد هم أصحاب اليد العليا في حكم المنطقة على نطاق أوسع. كذلك تسبّبت الروابط بين بعض الشخصيات العشائرية العربية والدولة الإسلامية في تفاقم انعدام الثقة بالعرب في أوساط القوى الأمنية الكردية.
يعتبر العديد من الأفرقاء المحليين والإقليميين أن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا الخاضعة لسيطرة الأكراد، وهي الذراع السياسي لقوات سوريا الديموقراطية، تُشكّل تهديداً مباشراً. فقد اتّهمتها تركيا بامتلاك روابط مع حزب العمال الكردستاني – وعندما بات واضحاً أنه ستتم استعادة السيطرة على هجين من قبضة “الدولة الإسلامية” في 12 كانون الأول (ديسمبر)، هدّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشنّ عملية فورية ضد هؤلاء “الإرهابيين” الأكراد شرق الفرات في سوريا. لكن مع تداول الأنباء عن انسحاب أميركي محتمل، عمد أردوغان إلى إرجاء الهجوم إلى ما بعد انسحاب القوات الأميركية من المنطقة. وقد طلبت “وحدات حماية الشعب” في المنطقة المساعدة من الحكومة السورية في مواجهة توغّل تركي، فدخل الجيش السوري منبج في 28 كانون الأول (ديسمبر). منذ ذلك الوقت، تقدّمت القوات المدعومة من تركيا أيضاً باتجاه المدينة، ما أثار احتمالات إندلاع نزاع جديد للسيطرة على المنطقة.
غير أن نظام الرئيس السوري بشار الأسد يرفض أيضاً الإعتراف بالحكم الذاتي للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يرى فيها تهديداً لسيادته على المنطقة الواقعة شمال شرق سوريا. في آذار (مارس) 2017، حذّر الأسد قوات سوريا الديموقراطية من أنه لن يتردّد في اللجوء إلى القوة لاستعادة السيطرة على الأراضي الخاضعة لها. وفي حين أقرّ الأسد بأن هناك فسحةً للتفاوض، أضاف أنه في حال لم تنجح المفاوضات، “سوف نلجأ… إلى تحرير تلك المناطق بالقوة”. من شأن اندلاع نزاع في المنطقة بين قوات سوريا الديموقراطية من جهة والنظام السوري أو تركيا من جهة أخرى، أن يؤدّي إلى تحويل موارد قوات سوريا الديموقراطية نحو النزاع بدلاً من استخدامها لمحاربة “الدولة الإسلامية”. علاوةً على ذلك، تشكّل الهجمات الجوية والأسلحة الأميركية والتنسيق مع الولايات المتحدة عوامل أساسية راهناً في المعركة ضد “الدولة الإسلامية” في دير الزور، كما أن إنسحاب القوات الأميركية سيجعل قوات سوريا الديموقراطية أكثر عرضةً للهجمات. حتى لو توصّل نظام الأسد إلى اتفاق للإعتراف بالفيديرالية الديموقراطية لشمال سوريا، فإن هذه الأخيرة لا تمتلك العديد البشري اللازم ولا الموارد المالية الكافية لطرد “الدولة الإسلامية” بنفسها.
إن خلايا “داعش” ليست ناشطة في المنطقة وحسب، بل إن النظام يحاول أيضاً الدفع بالشخصيات العشائرية التي عملت مع “الدولة الإسلامية” نحو إجراء انعطافة في موقفها والإصطفاف إلى جانبه عبر قطع وعود لها بمنحها الحصانة. إنها أجندة جديدة تُضاف إلى أجندات الأفرقاء الأمنيين المختلفين – ومنها قوات سوريا الديموقراطية المدعومة من واشنطن، والميليشيات الموالية للنظام والمدعومة من إيران – والتي تتسبب بتفاقم الفراغ الأمني في شمال شرق سوريا.
هذه التحديات المنهجية في سوريا والعراق سوف تساعد على استمرار التمرّد الذي يخوضه تنظيم “الدولة الإسلامية” في المدى المتوسط. وعلى الرغم من أن هذا التمرّد قد ينحسر، وبات يقتصر مجدداً، كما كان الحال في بداياته، على المستوى المحلي، إلّا أن الإنقسامات التي تتسبب بها المظالم الجيوسياسية والمحلية والإثنية المعقّدة تتيح له بصورة مستمرة فرصاً سانحة للنمو والإزدهار. ومن شأن حدوث مزيد من التحوّلات الجيوسياسية – على غرار شنّ هجوم تركي على منبج أو انسحاب أميركي سريع بما يؤدّي إلى قطع المساعدات والأسلحة عن الحلفاء المحليين – أن يؤدّي إلى تعزيز موقع “داعش” بصورة أكبر في هذه المناطق الحدودية.

• منى العلمي صحافيّة فرنسيّة – لبنانيّة، وزميلة غير مقيمة في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي. تكتب العلمي حول المسائل السياسية والاقتصاديّة في العالم العربي، بالتحديد في الأردن، ومصر، ولبنان، وسوريا، والسودان والإمارات العربية المتّحدة. يمكن متابعتها عبر تويتر: monaalami@

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى