شيء من التواضع!

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

ما من شك في أن يوم 10 كانون الثاني (يناير) 2019 سيُكتَب في المُستَقبل بحروفٍ ساطعة في تونس، بعد أن سقطت حكومة حركة “النهضة” التي أوكل تشكيلها “للمسكين” الحبيب الجملي الذي لم يكن لا في العير ولا في النفير. وبعد حجب البرلمان الثقة عنها، وهو أمرٌ كان مُتَوَقَّعاً منذ أكثر من أسبوع، للمرء أن يقف أمام ثلاث حقائق في محاولة لفهم مستقبل الوضع السياسي في البلاد:

أوّلها أن المخزون الإنتخابي ل”النهضة” هو ما بين 20 و25 في المئة من الناخبين، ولعلَّه مُرَشَّحٌ للإنخفاض بعد هذه النكسة.

ثانيها أن “النهضة” بمثل هذه النسبة أو أقل، وب20 في المئة من نواب مجلس نواب الشعب (البرلمان)، إعتبرت نفسها وكأنها فائزة بأغلبية تُمكّنها من الحكم، ولو بصورة مُوارِبة، فاعتمدت نتيجة مُزايَدة في غير محله، ويُقال إن زعيم الحركة راشد الغنوشي، وهو داهية، انجر لها رغم أنفه.

ثالثاً أن اختياراتها لتشكيل الحكومة لم تكن صائبة من البداية إلى النهاية، كما تنبأ بذلك أمينها العام السابق والمستقيل زياد العذاري، الذي لعلّه تفطّن من البداية للفخ الذي نصبه صقور “النهضة” للحركة الإسلامية.

كل هذا لا يُبرّر، من وجهة نظري، تلك الفرحة العارمة التي أصابت الجناح المُسمّى بالوسطي على اختلاف أفرقائه، وحتى إذا برّر القائمون عليه فرحتهم، فإنهم لا بدّ أن يلزموا شيئاً من التواضع، فلا ينجرّوا إلى ردود أفعال غير عقلانية التي من شأنها أن تُثير غضب الإسلاميين أو اعتبارهم  قوة بل وزن، إلتحاقاً بموقف عبير موسي المُمعنة في نفي وجود الاسلاميين،  فلا بدّ من التأكيد بأن لهم وجوداً في المجتمع،  ليس بالقوة التي حاولوا أن يظهروا بها منذ 2011، أو أن يستغلوها في توجهات مُعاكسة لطبيعة مدنية المجتمع، الموروثة عن عصر الأنوار، الذي انطلق من محمد علي في مصر في بدايات القرن التاسع عشر، ووجد قدماً راسخة منذ تولي المشير أحمد باي السلطة في تونس سنة 1837، ومنذ تولي خير الدين باشا الوزارة الكبرى، ثم توالى المُصلحون من قاسم أمين وكتابيه عن تحرير المرأة سنة 1890، إلى الطاهر الحداد وكتابه إمرأتنا في الشريعة والمجتمع، إلى بورقيبة، هذا الرسوخ الذي حاول الاسلاميون التنكّر له منذ قيام حركتهم  في تونس في أواخر ستينات القرن الفائت مُستَلهمين فكرهم من الوهابية و”الإخوان المُسلمين” في مصر، ولم يعودوا إلى الواقع نسبياً إلّا بعد الإصطدام به سنة 2013 ، فأُجبِروا على نوعٍ من التراجع إعتبروه تكتيكياً، بعدما فُرِضَ عليهم دستور ركيزته الرئيسة هي القِيَم الكونية، وإن كانوا ما زالوا يُشكّكون لليوم في ذلك.

في السياسة ليست هناك نكسة دائمة ولا انتصار دائم، بل هي تقوم على تنسيب الأشياء، ومن هنا وجب على مَن يعتقدون اليوم أنهم حقّقوا نصراً مساء 10 كانون الثاني (يناير) أن يتواضعوا شيئاً ما، ولا يدفعوا بمنافسيهم الإسلاميين لحصار في الزاوية،  بل أن يساعدوهم على الإندماج  في الحركة السياسية لمجتمع مدني، وهو ما يمنع عنهم التطرف، ويُبرز من بينهم العقلايين المؤمنين حقاً بطبيعة المجتمع المدني ، وما يستوجبه من تسامح.

ثم إنه لا بد من أن يسود شعور النسبية، فليس معروفاً إلى ما ستؤدي إليه عملية اختيار رئيس حكومة مُكَلَّف جديد، من طرف رئيس جمهورية يبدو على غاية السرية في تحركاته، وما إذا كان رئيس الحكومة المُكلّف الجديد سينال ثقة البرلمان، وإلّا في حالة حجب الثقة إلى أين سيكون المسار، بعد انتخابات سابقة لأوانها لا أحد يستطيع أن يتنبأ، بنتائجها وتبعات تلك النتائج.

  • عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم. كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يُمكن التواصل معه على: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى