التدقيق الجنائي، هل هو الحلّ السحري للأزمة الإقتصادية في لبنان؟

أقرّ مجلس الوزراء في لبنان بتاريخ 24/4/2020، إجراء تدقيقٍ مالي، ومُحاسَبة مُركّزة أو تدقيقٍ جنائي (Forensic Audit)، في حسابات مصرف لبنان. واستندت الحكومة إلى جدولِ الخسائر الكبيرة التي تكبّدها المصرف المركزي، التي تجاوزت 60 مليار دولار، وفق أرقام خطة الإنقاذ الحكومية، والتي بدورها دُفِنت في الأدراج.
وقد ظهرت العلاقة السببية بين مصرف لبنان والمصارف، حيث اتُّهِمَ القطاع المصرفي بتبديد ودائع المُودعين، في حدثٍ، لم يشهده لبنان منذ إنشائه قبل مئة عام. وقد تبيّن للرأي العام أن الطرف الأقوى في البلد هو حزب المصارف، حيث تبنّت الغالبية العظمى من الطبقة السياسية، مُقاربته للخسائر المالية التي تكبّدها النظام اللبناني، من خلال اللجنة النيابية المُختصّة، وبعض القوى السياسية التي تملك حصصاً مهمة في رأسمال المصارف.

وقد طلبت الحكومة مراجعة أسباب اختفاء الودائع، وأسباب الإنهيار المالي والتلاعب المدروس بالعملة الوطنية.

  • الإتفاق مع شركة ألفاريز ومارسال: جرى توقيع اتفاقية بين الجمهورية اللبنانية مُمثّلةً بوزارة المالية، وشركة الإستشارات “ألفاريز ومارسال” (Alvarez & Marsal) في 31/08/2020. وقد حددت الإتفاقية مُهمّة الشركة، بتحديد أسباب الخسائر المالية اللاحقة بمصرف لبنان وتحديد المسؤوليات.

بدأت الشركة الأميركية العمل عبر الطلب من مصرف لبنان تسليمها المستندات الضرورية اللازمة لمباشرة العمل بالتدقيق الجنائي. فبدأ المصرف المركزي وضع العراقيل أمام عمل الشركة تحت ذريعة السرية المصرفية، والتمنّع عن تسليم المعلومات، ورفض التجاوب مع الجداول المطلوبة من الشركة، ومنع الموظفين الإداريين في مصرف لبنان التعامل مع الشركة.

تجدر الإشارة إلى أن السرية المصرفية الملحوظة بالقانون اللبناني الصادر في العام 1956، لا تسري على حسابات الدولة ومصرف لبنان، ولا تتناول المال العام، سيما وأن الدولة نفسها هي التي تطلب المعلومات، باعتبار أن المصرف المركزي كمؤسسة عامة هو تابع للدولة، وليس كياناً مُنفصلاً عنها، رُغم تمتّعه بالشخصية المعنوية إزاء القانون.

هذا وقد نصّت المادة الأولى من قانون سرّية المصارف: تخضع لسر المهنة المصارف المؤسسة في لبنان على شركات مقفلة، والمصارف التي هي فروع لشركات أجنبية، شرط أن تحصل هذه المصارف اللبنانية والأجنبية على موافقة خاصة يعطيها وزير المال لهذه الغاية. تجدر الإشارة إلى ان القواعد القانونية التي تطبق النصوص ذات النفع العام لها الأولوية على القواعد ذات النفع الخاص.

  • إنسحاب الشركة الأميركية من لبنان: يُعرّف التدقيق المالي بالطريقة المحاسبية التي ينظر فيها المُدقّق في الموازنات في ما إذا كانت الموجودات مُطابقة للمطلوبات.

أما التدقيق الجنائي، فيتطلب معرفة ما إذا كانت العملية المالية قد جرت في الإطار السليم من دون أيّ مخالفات. أما في حال الشك بأي عملية حسابية، فيتم التدقيق في أصل إجراء العملية حتى لو كانت صحيحة مُحاسَبياً فقط. كما أن التدقيق الجنائي يُتابع العملية في ما إذا كانت مخالفة للقوانين والأصول المرعية.

وقد تلقى وزير المالية الدكتور غازي وزني بتاريخ 19/11/2020 كتاباً من شركة “ألفاريز ومارسال” تُعلن فيه إنهاء الإتفاقية المُوقَّعة مع وزارة المال حول التدقيق المحاسبي الجنائي، بسبب عدم حصول الشركة على المعلومات والمستندات المطلوبة، للمباشرة بتنفيذ مهمتها، وهذا ما أدّى إلى خيبة أمل لدى فريق رئيس الجمهورية الداعم الأول للتحقيق الجنائي.

تجدر الإشارة إلى أن أبرز نشاطات الشركة في المنطقة العربية كان التدقيق المالي في مصارف السعودية والإمارات، وأخرها التدقيق والتقييم لمصارف دولة الإمارات في الربع الأول من سنة 2020.

  • رسالة الرئيس إلى مجلس النواب وقرار البرلمان: غداة إنسحاب شركة “ألفاريز ومارسال” من لبنان، دعا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في رسالة إلى مجلس النواب بتاريخ 24/11/2020 بواسطة رئيس المجلس، نبيه بري، إلى التعاون مع السلطة الإجرائية من أجل أن تتمكّن الدولة من إجراء التدقيق المحاسبي الجنائي في مصرف لبنان، وإنسحاب هذا التدقيق على سائر مرافق الدولة العامة. هذا وقد تجاوب مجلس النواب مع رسالة رئيس الجمهورية في جلسته التي انعقدت في 27/11/2020، وشكّلت الجلسة فرصةً للكتل لتأكيد التمسّك بالتدقيق الجنائي، باعتباره أولوية في إطار المعركة الهادفة إلى مكافحة الفساد. هذا وبعد النقاش، قدم رئيس مجلس النواب اقتراحاً وافق عليه أعضاء مجلس النواب والذي يؤكد: “تخضع حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والمؤسسات المالية والبلديات والصناديق كافة بالتوازي للتدقيق الجنائي من دون أي عائق، أو تذرّع بالسرية المصرفية أو بخلافه.

لكن القرار يثير إشكالية قانونية. فمهمة مجلس النواب الأساسية هي سن التشريعات، وليس إصدار القرارات والتوصيات، إلّا في اللجان النيابية. لذا كان من الأجدى لمجلس النواب أن يصدر قانون، يزيل الإلتباسات، من دون فتح المجالس امام معوقات التفسير المتناقض أو عدم كفاية النص، وفقاً لرؤية الوزير السابق المحامي زياد بارود.

  • ماذا بعد سقوط التدقيق الجنائي؟ في المحصلة النهائية، إن غالبية الكتل النيابية توافقت على إرضاء رئيس الجمهورية من حيث الشكل، أما من حيث المضمون فكان الهمّ هو إبعاد التدقيق الجنائي المباشر عن مصرف لبنان وتحويله إلى الوزارات والمصالح المستقلة. ما يعني إحالة التدقيق الجنائي إلى الأجندة الإغريقية (Calendriers Grecs)  أي إلى ما شاء الله.

وهكذا يكون مجلس النواب رَبَطَ تدقيق المصرف المركزي بالتدقيق بسائر مؤسسات الدولة. وستظل العوائق القانونية ماثلة، من دون أن يكون هناك تشريعٌ يُذلّل الذرائع القانونية التي يتمسك بها مصرف لبنان.

سقط مشروع التحقيق الجنائي في الخوابي العتيقة لمجلس النواب، وكأني بالرئيس عون حامل لواء المشروع قد حارب وحيداً في المعركة، حتى أن بعض النواب المناصرين له قد مال مع رياح تجميد مشروع التدقيق الجنائي في مجلس النواب، مع التأييد العلني العابر لوسائل الإعلام لرسالة الرئيس إلى مجلس النواب.

يبقى أن تنفيذ التدقيق الجنائي دونه صعوبات كبيرة، في الوقت الحاضر، إلّا إذا تم استناداً إلى ضغوط دولية. فالمبادرة الفرنسية تضمنت إنجاز قانون الكابيتول كونترول والتدقيق في حسابات مصرف لبنان. والسؤال المطروح: إذا تمّ التدقيق الجنائي، هل سترد المصارف أموال اللبنانيين المُصادرة والبالغة 150 مليار دولار؟

لقد أدت الإدارة غير الحكيمة لمصرف لبنان إلى انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، ما أدّى إلى تدمير جزءٍ كبير من الطبقة المتوسطة ودفع معدل الفقر إلى 50% من اللبنانيين.

لقد وصل لبنان إلى الإنهيار المالي والإقتصادي والى قلب العاصفة، والخيارات أمام السلطة هي محدودة جداً، وتتمثّل بتطبيق المبادرة  الفرنسية والمباشرة بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي بعد تشكيل الحكومة، لأن هذه الخطوات هي ضرورية وأساسية قبل خراب البصرة والسقوط إلى ضواحي جهنم.     

  • يوسف صدقة هو ديبلوماسي وسفير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى