فرانتز هينِنْغْسن ريشةٌ دانماركيةٌ مَغمورَة

“البحَّار” (1880)

هنري زغيب*

غالبًا ما يتجه النقد التشكيلي بقرائه ومتابعيه إِلى أَعلام الرسم الشهيرين عالميًّا فتنتشر أَخبارُهم وأَعمالُهم على حساب آخرين غير معروفين لدى المتابعين والقراء. لذا أَفتح لقرائي اليوم صفحة مضيئة عن رسام مبدع قد لا يكونون يعرفونه أَو يعرفون الكثير عنه.

هو الرسام الدانماركي فرانتز پـيتر هينِنْغْسن (Henningsen). ولد في كوپنهاغن في 26 حزيران/يونيو 1850. مال باكرًا إِلى الرسم فانتسب إِلى معهد ولهلم نيلْسن استعدادًا لدخول كلية الهندسة المعمارية لدى الأَكاديميا الدانماركية الملكية للفنون الجميلة، فدخلها في تشرين الأَول/أُكتوبر 1870 لخمس سنوات. ولدى تخرُّجه سنة 1875، كما معظم رعيله، سافر إِلى پاريس يواصل تخصصه الفني، فانضمَّ مع زملاء دانماركيين إِلى محترف ليون بونَّا (Bonnat) لسنتين (1876 – 1878). وحتى في فرنسا، وسط ازدهار الانطباعية وموجة الرسم خارجًا في الطبيعة، ظلَّ فرانتز على النهج الأَكاديمي مفضِّلًا الرسم داخل المحترف، متأَثرًا بالموجة الواقعية الموجَّهة إِلى المنحى الاجتماعي. وأَضاف على أَعماله بُعدًا إِنسانيًّا في تصويره الحرمانَ والفقر والعذاب البشري.

في ربيع 1878 قام هينِنْغْسن، مع زملائه الرسامين پيتر كرُوْيِر وفرانز شوارتْزْ والأَلماني يوليوس لينج، برحلة إِلى إِسپانيا يدرسون أَعمال أَعلامها الكبار: ڤيلاسكيز وفرنشسكو دو زورباران.

“تعاسة الأُمّ الـمُهمَلة” (1888)

المـأْتم

من أَبرز لوحاته الإِنسانية: “المأْتم” (1893) وفي خطوطها ووجوهها مشحات حُزن عميق صامت. المشهد في ضاحية من كوپنهاغن: مقبرة للفقراء خارج أَسوار المدينة بُنيَت تخفيفًا من تخمة مقابر داخلها كانت في مطلع القرن التاسع عشر تضم أَعلامًا من عصر الدانمارك الذهبي. استخدم هيننغسن في لوحته المشحات السوداء ورسَم المشهد في يوم شتائي ماطر. جعل جدار المقبرة رماديًّا خاليًا من أَيّ لون. في اللوحة أَشخاص قليلون يدخلون المقبرة: أَرملة حُبلى تمسك بذراع رجل عجوز قد يكون والدها. تنظر إِلى الأَرض وهي تدخل المقبرة، وجهُها كئيب ذو ملامح مسطحة، أَمامها ولداها، ووراءها رجُلان بعيدان ينظران إِلى الأُسرة الصغيرة الداخلة إِلى المقبرة في هذا الحدث الحزين. واستخدم هيننغسن في اللوحة أَلوانًا على الطريقة الإِسپانية مذكِّرًا بڤيلاسكيز، وأَجواء قاتمة مُذَكِّرًا بإِدوار مانيه. لاقى هيننغسن تقريظًا كثيرًا على هذه اللوحة التي سرعان ما اشتراها متحف الدانمارك الوطني.

“الجندي الشهيد” (1901)

تعاسة في الحرب

مع اندلاع الحرب الأَلمانية الدانماركية (في الأَول من شباط/فبراير 1864) واجتياز الجنود الپروسيين والنمساويين الحدود إِلى شْليسْوِيْك حارب جيش الدانمارك مملكة پروسيا وأَمبراطورية النمسا. رسم هينِنْغْسن معركةً في لوحته “بطل من 1864” (1901)، صوَّر فيها طريقًا ريفيًّا في شْليسْوِيْك، ومحاربًا دانماركيًّا وحيدًا يواجه فيلقًا معاديًا، وعلى الأَرض ممدَّدٌ جنديٌّ بطل سقط شهيدًا. وفي السنة ذاتها التقط هيننغسن مأْساةً أُخرى في لوحة “سقوط محارب أَلماني” (1901) صوَّر فيها مأْساة أُخرى من مآسي الحرب.

“بطل من 1864” (1901)

في نهاية القرن التاسع عشر، درَجَ أَن يُمضي رسَّامو كوپنهاغن صيفهم في واحة بحرية شماليّ المدينة، يستأْجرون غرفًا في مجمَّع هُورْنبِك البحري (الشاطئ الشمالي من الجزيرة الدانماركية زيلِنْد، مقابل مضيق أُورسُوند الفاصل الدانمارك عن السويد). وسنة 1873 بلغها فرانتز ومعه ثلاثة رسامين: بيدر كْرُويِر، ڤيغو جوهانسن، وكريستيان زارتمان. والتحق بهم صيفئذٍ رسامون آخرون. سكن الرسامون الأَربعة عند الشاطئ الشمالي من زيلاند، يسحرهم منظر البحر والشواطئ الرملية وتلالٌ زرقاء قبالتهم في كولِن بعيدًا في أُفق البر السويدي. وسحرتْهم وجوه الصيادين وأَخبار البحارة وقصص البحر المثيرة. فرسم هيننغسن تلك الأَيام هناك، وتفاصيلها نهارًا وأُمسياتٍ وليلًا.

“الطفلة بيَّاعة الورد” (1891)

تعاسة الأُم المطلّقة

من أَبرز لوحات هينِنْغْسن كذلك لوحة “الأُم المطلِّقة” (1888). سماها “متروكة وحدي بلا أَصدقاء”، وهي لمشهد من البؤْس والتعاسة لدى سكان الطبقة الوسطى في كوپنهاغن إِبان ظروفهم الصعبة. وفي هذه اللوحة رسمَ أُمًّا مطلّقة حزينة. واللافت أَنه رسمها في السنة ذاتها التي شهدَت إِقرار القانون الدانماركي حقّ المرأَة المطلّقة بالحصول على إِعانة من طليقها لولدها حتى يبلغ العاشرة. ثم كان قانون آخر (1908) حتى يبْلغ الولد الثامنة عشرة. قبلذاك كانت الأُم غيرَ قادرة على إِعالة ولدها، لذا كثرت أَعداد الأَولاد في المياتم.

هكذا اشتهر هينِنْغْسن برسم الأَحداث والمشاهد البائسة والظروف الصعبة بين صفوف الطبقة الفقيرة في كوپنهاغن.

فرانتز هينِنْغْسن: الواقعية الإِنسانية

لكنه لم يغفل عن الطبقة الميسورة فرسم عددًا من اللوحات، بينها “مقهى في كوپنهاغن” (1906)، ولوحة “محلّ السمسار” (1893) وفيها رسَم مجموعة زوار يستعدُّون للمراهنات بيعًا وشراء. واشتهر برسم الوجوه والمناظر وكان يعرض أَعماله سنويًّا في معرض شارلوتنبرغ. غير أَن إِصراره على البقاء في نهج المدرسة التقليدية الواقعية أَثار النقد ضدَّه، ما ولَّد له بعض الصعوبات، منها اعتراض معاصره كارل مادْسِن على تعيينه سنة 1887 مُدرِّسًا في الأَكاديميا الملكية.

غير أَن ذلك، إِن لم يؤَثِّر على طاقته الإِبداعية، أَثَّر في مزاجه وربما في صحته، فاعتلَّ في كوپنهاغن فترةً غيرَ قصيرة انتهت بوفاته مقهورًا في 20 آذار/مارس 1908 عن 57 عامًا.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى