ثالوثٌ نقيٌّ للذاكرة الثقافية اللبنانية
هنري زغيب*
لا يزال الإِبداعُ اللبناني، بأَعلامه وأَعماله وعلاماته، يطلُّ علينا في ومضةٍ، في كتابٍ، في نتاجٍ، ويسْطع في كل إِطلالةٍ، وفي أَيِّ لغةٍ، ليُشرقَ في الهوية اللبنانية كنزًا جديدًا نختزنه في تراثنا رغيفًا آخَرَ لِقُوتِ أَجيالنا الجديدة. فالهوية اللبنانية ليست عنوانًا في بطاقةٍ أَو جوازِ سفَر، بل مدخلٌ إِلى عالَمٍ لبنانيٍّ لا حدودَ لكُنُوزه. والأَرزةُ ليست صورةً في عَلَم بل مدخلٌ إِلى جذورٍ أَورَثَنَاها جدودٌ مباركون عمَّروا لنا وطنًا إِرثُهُ أَمانةٌ في ضميرنا.
جديدُ ما أَطلَّ من هويتنا الغنيَّة كتابٌ/مرجعٌ بالفرنسية للدكتور هيام ملَّاط: “مذكرات ثقافية” (Mémoires culturelles) أَصدرَتْهُ دار “منشورات المجلة الفينيقية” (Éditions de la Revue Phénicienne) في 104 صفحات حجمًا وَسَطًا. وجاءَت نبيلةً لفتةُ المؤَلِّف أَن يكون وضعَ كتابه هذا “تلبيةً واجبًا وطنيًّا بنشْر مسيرة فنية وثقافية لثلاثة أَعلام لبنانيين: داود القُرم، المجلة الفينيقية، هكتور خْلاط”. وفصَّل بدِقَّةٍ أَكاديميةٍ علْميةٍ كلًّا من الثلاثة الأَعلام.
- داود القُرم (1852-1930) رائد الرسم في لبنان حرفةً وأُسلوبًا. كان على علاقة بالمطران يوسف فريفر (جَدّ الكاتب لأُمِّه)، وله من القُرم أَربع رسائل شخصية (أَقْدمُها في 9 تموز/يوليو 1884، وأَحدثُها في 8 أَيَّار:مايو 1886)، تنكشف فيها حقبة اجتماعية وفنية من تاريخ لبنان الحديث.
- “المجلة الفينيقية” أَسَّسَها بالفرنسية الشاعر شارل قُرم (1894-1963) وأَصدر منها أَربعةَ أَعداد مكثَّفة بين تموز وكانون الأَول 1919، نشَر فيها جوًّا من الأَمل في مجتمع لبناني كان حديثَ الخلاص من ويلات الحرب العالَمية الأُولى. فيها اتجاه الشاعر والْتِزامه السياسي والثقافي بلبنان اللبناني. بعد سنةٍ من احتجاب المجلة، أَسَّس شارل قُرم “منشورات المجلة الفينيقية” كي يواصل رسالة لبنان الحضارية. وهذه الرسالة ما زالت متواصلةً حتى اليوم بعناية ولَدَيه دافيد وحيرام اللذين حوَّلا مبناه مركزًا ثقافيًّا ناشطًا جدًّا بالندَوات الثقافية المتواصلة، بالنشْر المستمرّ، وباكتناز مكتبة الشاعر ومخطوطاته وآثاره الشعرية والنثرية وإِصدارها بأَرقى إِخراج وطباعة شاءَهُما دافيد وحيرام لائقتَيْن بوالدهما صاحب الرائعة الشعرية “الجبل الملهم”، هو الْكانت الأَناقةُ الأَدبيةُ عنوانَه الآخَر. وبين المجلة ومنشوراتها أَسَّس شارل قُرم لمناخٍ من الطموح اللبناني تجلَّى بتَرَؤُّسه الجناحَ اللبناني في معرض نيويورك الشهير سنة 1939.
- هكتور خْلاط (1888-1976) الشاعر اللبناني بالفرنسية. كانت له مع شاعر الأَرز شبلي ملَّاط (جَدّ المؤَلِّف لأَبيه) علاقةٌ ساهمت إِلى حدٍّ بعيدٍ بتقديم الأَدب اللبناني في لغَتَيْه، منذ أَلقى خْلاط قصيدة في احتفال تكريمي للملَّاط في إِهدن، صدَر جزءٌ منها في ديوان خْلاط “الأَرزة والزنبق” (1935)، مع إِهداء بخطه إِلى شاعر الأَرز. وثمةَ إِهداءٌ إِليه آخرُ بخطه على نسخة ديوانه الفرنسي “فُتات الوليمة” (1939). من تلك الحقبة انتقل المؤَلِّف إِلى علاقته الشخصية بالشاعر خْلاط منذ الْتقاه ذات يوم من نيسان/أبريل 1967 لمقال في جريدة الـ”أُوريان”. وبدأَتْ من يومها مراسلةٌ بين الشاعر والمؤَلِّف الْكان في مطلع شبابه مندفعًا إِلى الأَدب مع دراسته الحقوق، ليُصبح محاميًا وتكونَ في مكتبه ومكتبته اليوم كنوزٌ من الإِرث الأَدبي اللبناني.
هذا الكتاب، أَمامي، أَيقونةٌ أَدبيةٌ لبنانيةٌ نادرة، أَتمنى أَن يحذو مهتمُّون ومعنيُّون ما جاء به الدكتور هيام ملَّاط من كشْفِ مخطوطاتٍ ورسائلَ وصُوَرٍ ومذكِّرات، وسواها من مخبوءَات موزَّعة لدى أَصحابها يَجمُل بهم أَن يكشفوها، أَو ينشروها، أَو يودِعُوها أَمانةً لدى مركز ثقافي يُعنى بالتراث، يهتمُّ بها ويحفظُها ويحافظُ عليها بأَدقِّ الوسائل الحديثة عند اقتناء المادة الورقية.
هكذا نخدم لبنان اللبناني بنشْر كُنُوزه الحضارية، كي يتسلَّمَها منَّا جيلُنا الجديد ذخرًا من وطنٍ غيرِ عاديٍّ بإِرثه الحضاري وأَعلامه الخالدين.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).