بكين تُنافِسُ هوليوود في … الصين

على هوليوود التخلّي عن افتراضِ أنَّ صيغتها السردية هي السائدة عالميًا. إذا استمرّت الاستوديوهات الأميركية في التعامل مع الصين كفكرةٍ ثانوية بدلًا من كونها قوة ثقافية فريدة ومساوية، فستجد نفسها بشكل متزايد غير ذات صلة في سوق كانت يومًا ما محورية لاستراتيجيتها العالمية.

طفلة وكلب يرتديان زي “نيزها” من فيلم “ني تشا 2” (Ne Zha 2) ينتظران لمشاهدة الفيلم في تيانجين، الصين، في 28 شباط/فبراير الفائت.

عبد السلام فريد*

لسنوات، ألقت هوليوود باللوم في تراجُعِ حضورها في الصين على تشديد الرقابة، وتصاعُد النزعة القومية، والحمائية الحكومية. وتُجادِلُ الاستوديوهات الأميركية بأنَّ القوى السياسية -وليس القصور الإبداعي- هي السبب في تراجُعِ هيمنة أفلام “مارفيِل” (Marvel)، وفقدان سلسلة أفلام “فاست آند فيوريوس” (Fast & Furious) زخمها، وتراجُع حصة هوليوود الإجمالية في السوق الصينية بشكلٍ حاد. صحيح أنَّ قبضة بكين التنظيمية على موافقات الأفلام، ونظام الحصص الذي يَحدُّ من الإصدارات الأجنبية، وتفضيلها للمحتوى المُنتَج محلّيًا، كلها عوامل تُشكّلُ بيئةً منافسة، إلّا أنَّ الاعتمادَ على هذا التفسير وحده مُبالَغٌ فيه. لا تقتصرُ معاناة هوليوود في الصين على السياسة فحسب، بل تعكُسُ فشلًا أعمق: رفض أخذ الجمهور الصيني على محمل الجد.

إنَّ النجاح الباهر لفيلم “ني تشا 2” (Ne Zha 2,)، الذي حطّم أرقام شباك التذاكر في الصين، ويُعتبر الآن سادس أعلى فيلم “إيماكس” (IMAX) تحقيقًا للإيرادات على الإطلاق في جميع أنحاء العالم، ينبغي أن يكونَ بمثابةِ جرسِ إنذار. يكمُنُ سرُّ هذا النجاح في “ني تشا” نفسه، إحدى أكثر الشخصيات الخالدة في التراث الشعبي الصيني. يُصوَّرُ تقليديًا كمحاربٍ شابٍ شَرِس يحملُ رمحًا ناريًا وعجلاتٍ مشتعلة، ويُعرفُ “ني تشا” بتحدّيه للقدر ومواجهة السلطة.

يعتمد فيلم “ني تشا 2″ (Ne Zha 2) على تقليدٍ عريقٍ من الرسوم المتحرّكة الصينية يعود إلى كلاسيكيات مثل ” خراب في الجنة” (Havoc in Heaven) (1961) و”ني تشا ينتصر على الملك التنين” (Ne Zha Conquers the Dragon King) (1979). ويواصل امتياز “ني تشا” (Ne Zha) الحديث هذا الإرث، ولكن بأسلوبٍ معاصر: فكاهةٌ حادة، ومرئيات مذهلة، وقصّة تُبرِزُ موضوعات الهوية والنضال وقبول الأسرة. وقد حاز الفيلم تقييماتٍ إيجابية بالإضافة إلى نجاحه في شباك التذاكر.

ومثل “مارفيل” (Marvel)، قدّمه الاستوديو على أنه الجُزءُ الثالث من عالم سينمائي من الشخصيات المُستَمَدّة من رواية “تنصيب الآلهة” (Fengshen Yanyi)، وهي رواية من القرن السادس عشر وفّرت مادةً لقرونٍ من الدراما الشعبية في الصين ولكنها غير معروفة تقريبًا خارج البلاد.

من السهل على هوليوود أن تستبعدَ نجاحَ “ني تشا 2” (Ne Zha 2) على أنه نتيجةٌ للقومية أو تدخُّلُ الدولة. والحقيقة الأصعب هي أنَّ الجمهور الصيني، بعيدًا من كونه مُستهلِكًا سلبيًا يتأثر فقط بالدعاية أو الخيارات المحدودة، يتخذ قرارات نشطة ومتطوِّرة بشأن ما يشاهده. وفي أغلب الأحيان، فهو يختار الأفلام المحلية بدلًا من الأفلام المُستَورَدة من هوليوود.

صحيحٌ أنَّ الجمهورَ الصيني يعملُ في بيئةٍ خاضعةٍ لرقابةٍ مُشَدَّدة، إذ تُحدّدُ الحصصُ الحكومية عدد ونوع أفلام هوليوود التي يُمكنه مشاهدتها. ولكن حتى في ظل هذه القيود، أخطأت هوليوود باستمرار في تقدير السوق، مُفتَرِضةً أنَّ صناعة الأفلام التقليدية القائمة على الخوارزميات، والمدعومة من الدولة، ستكون كافية لتحقيق النجاح.

بعضُ الأفلام الصينية ارتكبَ أخطاءً مماثلة أيضًا. يُعَدُّ فشل فيلم “عملية ليفياثان” (Operation Leviathan)، الجزء الثاني من فيلم”عملية البحر الأحمر” (Operation Red Sea) الناجح، في شباط (فبراير) الماضي، مثالًا واضحًا على ذلك. فعلى الرُغم من إنتاجِهِ المُرتفع وشعبية سابقه، إلّا أنَّ الفيلم لم يُحقق نجاحًا يُذكر، حيث لم يَجنِ سوى 3.8 ملايين يوان صيني، وهو رقمٌ أقل بكثير من التوقعات. لماذا؟ وجد المشاهدون أنَّ إيقاعه ضعيف، وحبكته غير مكتملة، واعتماده المفرط على المشاهد البصرية مُمِلّ.

حتى مواضيعه الوطنية، التي كانت في يوم من الأيام وصفة أكيدة للنجاح، فشلت في جذب الجمهور الذي سئم من العروض الفارغة. أسفرت محاولة الفيلم للموازنة بين الأصالة وجاذبية السوق عن سردٍ غير مُركَّز يفتقرُ إلى العمق العاطفي. الدرس واضح: الجمهور يتوقع أكثر من مجرد الكلام الرنّان، بل يريدُ قصصًا وشخصيات مصممة جيدًا تتردّد على مستوى أعمق.

تعودُ أخطاء هوليوود في حساباتها في الصين إلى أكثر من عقد. لسنوات، افترضت الاستوديوهات الأميركية أنَّ حجمَ السوق وحده يضمن النجاح. أغرقت دور العرض بأفلامٍ ضخمة، مقتنعةً بأن الميزانيات الأكبر تعني أرباحًا أكبر. ولفترةٍ من الوقت، نجحت هذه الاستراتيجية. حققت أفلام مثل “المتحوِّلون: عصر الانقراض” و”السمّ” مئات الملايين في الصين، ما عزّزَ الاعتقاد بأنَّ العرضَ المُذهِل وحده قادرٌ على حمل أفلام هوليوود إلى السوق. ولكن مع نضوج صناعة السينما الصينية، أصبحَ الجمهورُ أكثر تمييزًا. تلاشت جاذبية مشاهد “الأكشن” عالية الميزانية والمليئة بالرسومات الحاسوبية، وأصبح ما اعتبرته هوليوود سابقًا صيغة مضمونة النجاح عتيقًا وقديمًا.

عندما توقّفَ العرضُ المُذهلُ عن العمل، تحوّلت هوليوود إلى استراتيجيةِ توطينٍ مُصَمَّمة لجعل أفلامها أكثر قبولًا للجمهور الصيني. أدخلت الاستوديوهات ممثّلين صينيين في أدوارٍ ثانوية، وصوّرت بعض المشاهد في الصين، وحذفت تعديلات خاصة بالصين امتثالًا للجهات التنظيمية. كان الافتراضُ أنَّ هذه التعديلات السطحية ستكونُ كافيةً للحفاظ على هيمنتها على السوق. لكن الجمهور أدرك حقيقة هذا التملُّق. تضمّنت أفلام مثل “رجال إكس: أيام المستقبل الماضي” عناصر صينية رمزية، بينما صُوِّرَ “السور العظيم” كفيلمٍ خيالي صيني بالكامل، لكن كلاهما فشل لافتقارهما إلى التكامل الثقافي الحقيقي. يكمن الاختلاف بشكلٍ رئيس في تعقيد التغليف – أحدهما كان يُملِّق بشكل صريح، بينما صُوِّرَ الآخر كفيلمٍ صيني، لكنه مع ذلك فشل في تحقيق صدى حقيقي لدى الجمهور.

في غضون ذلك، نجحت سلسلة أفلام “كونغ فو باندا” في البداية بفضلِ دمجها المدروس للثقافة والفلسفة والفنون القتالية الصينية. وعلى عكس العديد من محاولات هوليوود لاستخدام العناصر الصينية كحِيَلٍ بصرية أو تسويقية فحسب، أظهرت الأفلام الثلاثة الأولى من السلسلة فهمًا حقيقيًا للمفاهيم الفلسفية الصينية الرئيسة مثل التوازُن واكتشاف الذات والمرونة. وقد احترمت هذه الأفلام الفنون القتالية ليس فقط كمشهدٍ استعراضي، بل كتعبيرٍ عن الانضباط والنموِّ الداخلي. ودمجت الأفلام بسلاسة بين الجماليات التقليدية والتفاصيل المعمارية والزخارف الثقافية، بدءًا من تصميم رقصات القتال المستوحاة من فن الخط الصيني وصولًا إلى الموضوعات الطاوية والبوذية المتجذّرة.

ساعد هذا المستوى من الدقّة والأصالة في ترسيخ مكانة السلسلة لدى الجمهور الصيني، ما جعلها واحدة من أنجح إنجازات هوليوود عبر الثقافات. ومع ذلك، تعثّرَ فيلم “كونغ فو باندا 4″، على الرُغم من احتفاظه بالجماليات الصينية. فقد بدت القصّة مُصطَنعة، والفكاهة مُشتقة منها، ومسارات الشخصيات متوقَّعة – وهي علامة على أنَّ الجمهور يطلب أكثر من مجرّد تفاعُلٍ سطحي مع ثقافته. أشارت مراجعات موقع “دوبان” (Douban) لتصنيف الأفلام إلى أنَّ الفكاهة بدت مبالغًا فيها وطفوليةً أكثر من الكوميديا ​​الذكية متعدّدة الطبقات التي اتسمت بها الأفلام السابقة؛ كما افتقرت الشخصيات الجديدة المُقدّمة إلى السمات المُميّزة والتطوُّر الغني الذي جعل طاقم الممثلين المساعدين الأصلي محبوبًا للغاية؛ وبدت محاولات الفيلم لإبراز اللحظات العاطفية فارغة وغير ضرورية. كان هذا التحوُّل من الصدق إلى الصيغة الفنية سببًا رئيسًا في فشل فيلم “كونغ فو باندا 4” في استعادة نجاح أسلافه في الصين.

يُعدُّ فشل فيلم ديزني “الرجل الحالم” (The Dreaming Man) لعام 2017 قصّةً تحذيرية أخرى. صُمِّمَ هذا الفيلم من البداية كمشروعٍ صيني المَنشأ بمخرجٍ صيني وطاقم تمثيل محلي، وكان من المفترض أن يكون تعاونًا سلسًا بين هوليوود والصين. لكنه فشل ذريعًا لأنه بدا مُصطَنعًا وغير مُناسب. وكما قال أحد مُخضرمي الصناعة: “بدا الفيلم صينيًا، لكنه بدا هوليووديًا بكل وضوح – مزيج مُفرط رفضه الجمهور”.

في الوقت نفسه، نجح فيلم “تشينغ شنغ” (Qing Sheng)، وهو إعادة إنتاج صينية لفيلم “المرأة ذات الرداء الأحمر” (The Woman in Red)، لأنه كيّفَ القصة تمامًا مع الحساسيات الصينية، ودمجها في منطقٍ ثقافي بدا طبيعيًا. وبالمثل، يتردّدُ صدى فيلم “ني تشا 2” لأنَّ بطله ليس وسيمًا أو بطلًا مثاليًا تقليديًا، بل هو شخصٌ مُستضعَف يُكافحُ من أجل الحصول على رضا الوالدين – وهو موضوعٌ يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بالجمهور الصيني. وقد أثار الفيلم مشاعر المشاهدين الشباب بشكل خاص، نظرًا لتصويره المُفعَم بالعاطفة لديناميكيات الأسرة – التوقُّعات غير المُلبّاة، والتوترات بين الأجيال، والسعي المُستميت إلى الحصول على تقدير الوالدين. وقد لاقت هذه المواضيع صدى لدى العديد من الأطفال والشباب الصينيين، الذين يرون صراعاتهم الخاصة تنعكسُ في رحلة “ني تشا”، مما يجعل الفيلم تجربة شخصية عميقة بالنسبة إليهم.

إنَّ فكرةَ ازدهار المنتجات الثقافية الصينية بفضل دعم الدولة فقط تتجاهل حقيقة جوهرية: المستهلكون الصينيون يتميَّزون بالذكاء والتدبر في اختياراتهم. فيلم “ني تشا 2” ليس نجاحًا مُصطَنعًا، بل أصبح ظاهرة ثقافية، مدفوعة بحماس جمهور حقيقي وطموح إبداعي. وعلى نحو مماثل، استحوذت لعبة الفيديو “الأسطورة السوداء: ووكونغ” (Black Myth: Wukong) التي صدرت في العام 2024 على اهتمامٍ عالمي، ليس من خلال تدخُّلٍ حكومي، ولكن من خلال الحِرَفية الدقيقة وسردٍ مُقنع من استوديو مستقل.

تؤكد هذه النجاحات على تحوُّلٍ محوري – فالصين لا تنتج محتوى برعاية الدولة فحسب؛ بل إنها تُنافس بنشاط، بل وتتفوَّق في بعض الحالات، على الاستوديوهات الغربية في التنفيذ الفني والتقني.

من المُسلّم به أن هوليوود لم تُطرَد بالكامل من الصين. لا تزالُ أفلام الحركة الضخمة تحظى بلحظاتها – فقد حقق فيلم “غودزيلا ضد كونغ” إيرادات بلغت 132 مليون دولار في الصين في العام الماضي، مما يُثبت أنَّ الأفلام التي تعتمد على المشاهدة لا تزال قادرة على جذب جمهور. ولكن هذه النجاحات لم تَعُد هي القاعدة، ولم يَعُد بوسعِ هوليوود أن تعتمدَ على الحجم الهائل والمؤثّرات الخاصة لضمان الهيمنة على شباك التذاكر.

في الوقت نفسه، لم تُحقّق الأفلام الصينية بَعد الانتشار العالمي الذي حققته هوليوود. ففيلم “ني تشا 2″، على الرُغم من نجاحه المحلي، لا يزال محصورًا إلى حدٍّ كبير في السوق الصينية. قد تُثيرُ لعبة الفيديو “الأسطورة السوداء: ووكونغ” ضجة عالمية، لكن جمهورها الأساسي لا يزال صينيًا بأغلبية ساحقة. ورغم تنامي طموحها الإبداعي، لم تُنتج الصين بَعد عملاقًا ترفيهيًا يتجاوز سوقها المحلية حقًا. مع ذلك، فإنَّ الاتجاهَ العام واضح: فقد أصبح الجمهور الصيني أكثر انتقائية، وأكثر تطلُّبًا لأفلامٍ ذات سردٍ قوي، وعُمقٍ عاطفي، وشخصياتٍ تبدو حقيقية، بدلًا من أن تكونَ مجرّدَ شخصياتٍ عادية في عرضٍ سينمائي ضخمٍ مُفعمٍ بالرسوم المُولَّدة بالحاسوب.

يشيرُ هذا التطوُّر إلى تحوُّلٍ لم تُدركه هوليوود جيدًا. فبينما استثمرت الاستوديوهات الصينية في سرد ​​القصص ورعاية المواهب المحلية، استمرّت هوليوود في التعامل مع الصين في المقامِ الأوُّل كسوقٍ للتوزيع، بدلًا من كونها قوة ثقافية قائمة بذاتها. لقد ولّت أيامُ إضافة ممثّلٍ صيني رمزي، أو إدراج مشهد قصير تدور أحداثه في شنغهاي، أو إجراء تعديلات طفيفة للرقابة، كفيلةً بضمان النجاح. ما كان يُنظَرُ إليه سابقًا كاستراتيجية توطين سهلة، يبدو الآن وكأنه من مخلّفاتِ عصرٍ مضى.

الدرسُ المستفاد من فيلم “ني تشا 2” ليس أن تبدأ هوليوود إنتاجَ أفلامٍ صينية ناجحة، بل أنَّ على هوليوود التخلّي عن افتراض أنَّ صيغتها السردية هي السائدة عالميًا. إذا استمرت الاستوديوهات الأميركية في التعامل مع الصين كفكرةٍ ثانوية بدلًا من كونها قوة ثقافية فريدة ومساوية، فستجد نفسها بشكلٍ متزايد غير ذاتِ صلة في سوق كانت يومًا ما محورية لاستراتيجيتها العالمية.

  • عبد السلام فريد هو مراسل “أسواق العرب” في بكين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى