لا تَستَهِنوا بالأرمن في لبنان
آراز بيدروس وكارني كويشغيريان*
يُعَدُّ لبنان موطنًا لجاليةٍ أرمنيّةٍ نابضةٍ بالحياة. فبينما كان عددُها في السابق يتجاوز ال200 ألف نسمة، يُقدّرُ عدد أفرادها اليوم بما يتراوح بين 40 ألفًا و60 ألفًا، وهو انخفاضٌ ملحوظ في أعدادهم، لا سيما بين الشباب. وقد هاجرَ جُزءٌ كبيرٌ من الأرمن اللبنانيين، وخصوصًا الشباب، إلى كندا وفرنسا والولايات المتحدة، مما يُمثل هجرةً للأدمغة أضعفت القاعدة الاجتماعية والاقتصادية للجالية.
وقد لعبت عوامل عديدة دورًا في ذلك، بما فيها الانهيار السياسي والاقتصادي الذي شهده لبنان في العامين 2019 و2020، وانفجار مرفَإِ بيروت في آب (أغسطس) 2020. فقد دُمِّرَ العديدُ من الشركات المملوكة للأرمن جراء الانفجار، الذي جاء في ظلِّ أزمةٍ اقتصاديةٍ وتضخُّمٍ مُفرِط. وبالمثل، أدّت التحوُّلات الجيوسياسية في الشرق الأوسط إلى تنامي النفوذ التركي في سوريا، ما هدّدَ وجود الأرمن في كلٍّ من سوريا ولبنان. لهذه الأسباب جميعها، سعى الأرمن في لبنان إلى استعادة الاستقرار في وطنهم. إلّا أنهم يحتاجون إلى المساعدة في هذا المسعى.
ساهَمَ الأرمن مساهمةً كبيرة في ازدهار لبنان على مرِّ العقود. نشطوا في التجارة والحرف والزراعة والفنون، ويواصلون الحفاظ على اللغة الأرمنية الغربية من خلال مؤسّساتهم الدينية والتعليمية والسياسية. وحافظ الأرمن على وجودهم في الشتات من خلال المنظّمات الخيرية والثقافية والرياضية. ويأتي العديد من هذه المبادرات من أرمينيا، مثل صندوق هاياستان لجميع الأرمن، وصندوق آرتساخ سابقًا. وتساعد المنظمات الطلابية والنقابات العمالية في الحفاظ على الخصوصية الثقافية، كما تفعل جامعة هايكازيان، وهي المؤسسة الأرمنية الوحيدة للتعليم العالي خارج أرمينيا.
ومع ذلك، ثمّةُ حاجةٍ إلى مزيدٍ من الدعم من أرمينيا لضمان استدامة الجالية الأرمنية اللبنانية. لدى أرمينيا مصلحة في المساعدة، إذ يمكن للجالية الأرمنية في الخارج أن تكونَ مصدرَ قوة من خلال توفير الدعم المالي والدعوة السياسية والروابط الثقافية. وقد ضغطت الجالية الأرمنية في الخارج بنشاط من أجل الاعتراف بالإبادة الجماعية ودافعت عن مصالح أرمينيا دوليًا. ويُمكنُ أن تلعبَ هذه الجهود دورًا حاسمًا في تعزيز الديبلوماسية والأمن الأرمنيَين، ويمكن أن تسهم في زيادة الاستثمار في البلاد وتطوير شبكات علاقاتها.
على مدى السنوات العشرين الماضية، بلغ إجمالي تدفّقات الاستثمار من لبنان إلى الاقتصاد الأرمني 527.7 مليون دولار. تعمل شركاتٌ كبيرة برأس مالٍ لبناني في أرمينيا في قطاعاتٍ متنوّعة مثل القانون والاستشارات والمجوهرات والزراعة والتمويل. منذ العام 2020، انضمَّ أكثر من 250 متخصّصًا من الجالية الأرمنية في الخارج إلى برنامج “iGorts”، الذي يسعى إلى جذب المهنيين الأرمن للعمل في القطاع العام في أرمينيا.
يُعَدُّ الأرمن اللبنانيون من أكثر الجاليات الأرمنية في الشتات رسوخًا تاريخيًا. مع ذلك، يجب على أرمينيا أن تُدركَ الواقعَ المزدوج للنجاح والأزمة داخل هذا المجتمع. يُعدّ تمويل المدارس والمراكز الثقافية والصحف الأرمنية أمرًا بالغ الأهمية في ظلّ معاناة هذه المؤسّسات في أعقاب الأزمة الاقتصادية اللبنانية. كما يُعدّ الدعم المالي للشركات الأرمنية وتمويل برامج التبادل الطلابي بين لبنان وأرمينيا أمرًا بالغ الأهمية. يجب توفير المزيد من الفرص للشباب الأرمني في لبنان وأرمينيا للتفاعُل والتعلُّم من بعضهم البعض وتعزيز هويتهم المشتركة. فهناك هوية غنية مُرتبطة بالثقافة والتاريخ اللبنانيين، وهي غالبًا ما تكون غائبة عن الأنظمة التعليمية في أرمينيا.
يجب على الشركات في أرمينيا أن تسعى جاهدةً إلى توظيف الأرمن اللبنانيين عن بُعد، مما يتيحُ لهم كسب أجور مع الحفاظ على تميُّزهم المحلّي ومجتمعهم. فالأرمن في لبنان ليسوا مجرّدَ جُزءٍ من الشتات، بل يشكّلون منظومةَ دعمٍ للحياة الفكرية والثقافية والسياسية الأرمنية في الشرق الأوسط. في ضوء ذلك، من الإنصاف والحكمة الاستراتيجية أن تستثمر أرمينيا في هذا المجتمع، إذ غالبًا ما يكون الأرمن اللبنانيون سفراءً للهوية الأرمنية في الخارج. إنَّ صمودهم ليس مجرّدَ مصدرِ فخر، بل هو أساسٌ يمكن لأرمينيا البناء عليه.
ولهذا السبب، يجب ألا تُعامِل أرمينيا الأرمن اللبنانيين كمجرّد بقايا ناجين من الإبادة الجماعية، بل كمجتمعٍ غنيٍّ وشركاءٍ استراتيجيين محتملين. باتخاذِ خطواتٍ استباقية، يمكن لأرمينيا ضمان بقاء الأرمن اللبنانيين مساهمين دائمين في كلٍّ من الشعبين اللبناني والأرمني. يجب أن يكون تعزيز النمو الاقتصادي والاستثمار والتكامل الإقليمي أولوية.
ينبغي على الجهات الفاعلة في المجتمع اللبناني أيضًا السعي إلى الإصلاح، وعليها مواءمة الموارد مع الاحتياجات المعاصرة للشباب، وخصوصًاً في مجال التعليم. هل يُقدَّم التعليم الأرمني بما يتوافق مع الأدوات التي يحتاجها الشباب اليوم؟ هل تشجع المدارس والأحزاب السياسية على التفكير المتوسِّع، أم أنها تُكرِّر أساليب بالية تهدف إلى الحفاظ على الذات؟ التغييرُ الإيجابي ضروري، ويجب أن يشملَ جميع الأجيال. ولا يقتصرُ هذا على الأرمن فقط. فقد اعتمدَ العديدُ من المجتمعات والمجموعات الثقافية في المنطقة التي عانت من الإبادة الجماعية، مثل الأكراد والآشوريين، على عمليات الحفاظ على التراث الثقافي، على غرار الأرمن في لبنان، وقد ساهمت هذه العمليات في إحياء هذه المجتمعات.
تاريخيًا، عزّزت الأندية والأحزاب السياسية الأرمنية الانتماء والقيادة. أما اليوم، فقد أصبحت هذه المنظمات أقل حيوية وتواجه نقصًا في المواهب، فضلًا عن أوجه قصور مؤسّسية. لم يعد الكثير من الشباب يرون هذه المساحات ذات أهمية، لأنها لا تلبي احتياجاتهم الفكرية والاجتماعية. ولكي يحدثَ تغييرٌ حقيقي، يجب أن يترافق الدعم الخارجي مع التحوُّل الداخلي. لا يمكن للمجتمع الأرمني في لبنان الاعتماد على المساعدة الخارجية فحسب؛ بل يجب عليه أيضًا إعادة تصوُّر مؤسساته لإعداد الشباب الأرمني لعالم اليوم.
عاش الأرمن في لبنان لقرون، حتى قبل الإبادة الجماعية في العام 1915. وهذا يجعل لبنان وطنًا للجميع، حيث يتمتع الأرمن بهوية أرمنية ولبنانية لا يمكن فصلها. وبصفتنا أرمنًا لبنانيين، فإننا نحمل مزيجًا فريدًا من التراث الأرمني والثقافة اللبنانية، مما يجعل من الضروري للغاية أن يظلَّ المجتمع اللبناني قويًا ومتجذّرًا في لبنان.
- أراز بيدروس هي ناشطة سياسية وباحثة لبنانية-أرمنية، متخصصة في الاعتراف بالإبادة الجماعية الأرمنية والدعوة إليها. يركز عملها بشكل رئيس على رفع مستوى الوعي بالإبادة الجماعية الأرمنية.
- كارني كويشغيريان هي ناشطة لبنانية-أرمنية وطالبة دراسات عليا في جامعة سانت لورانس في نيويورك.