لماذا يَتَفاقَمُ الخلافُ بين الجزائر وروسيا؟

محمّد قوّاص*

لم تَكتُم الجزائر امتعاضَها طويلًا من روسيا. تَجمَعُ بين البلدين رسميًا علاقاتُ ودٍّ وتعاوُنٍ وتَحالُفٍ تُوصَفُ بالاستراتيجية. تَنهَلُ الجزائر ذلك التميُّز مع موسكو من تاريخٍ يعودُ إلى زمن الاتحاد السوفياتي، فقد انتمى البلدان إلى “خندق واحد” في أيامِ الحرب الباردة، وتسلّح جيش الجزائر من مصانع الأسلحة الروسية، ولم يختلف نمطُ الوَصل بين البلدين حتى حين اندثرت تلك الحرب، وسقطت الأيديولوجيا، وتخلّت موسكو عن ردائها الشيوعي.

المُفارَقة أنَّ كلَّ الأخطارِ الراهنة المُحدِقة بالأمن الاستراتيجي للجزائر تطلّ من نوافذ روسية. تَبرَّمَ المجلسُ العسكري في مالي وألغى “اتفاق الجزائر” لعام 2015 الذي عملت الجزائر على رعايته بين باماكو وفصائل أزواد في شمال البلاد. ظهرَ بعد ذلك عداءُ حكّام مالي الجُدد الذين أتى بهم انقلابٌ عسكري حظي بدعم روسيا. رعت موسكو أيضًا سلسلةَ انقلاباتٍ عسكرية ضربت بلدان الساحل الأفريقي. ولا تغيب روسيا عن تحرّك قوات “الجيش الوطني” الليبي، بقيادة خليفة حفتر، أخيرًا، صوب الحدود مع الجزائر.

لا تُحِبُّ الجزائر التدخّلات العسكرية الخارجية. وهذه عقيدةٌ لدى النظام الذي حكم البلاد منذ الاستقلال في العام 1962. ودَرَجَ أن تَمقُتَ الجزائر مشاريع من هذا النوع تأتي من الغرب، تارةً غِيرةً على أمنِ الأفارقة، وتارةً ثانية درءًا لأخطارِ الإرهاب، وتارة ثالثة لمصالح وأجندات جيوستراتيجية. وسبقَ للجزائر أن عارضت العمليات العسكرية الفرنسية في الساحل الأفريقي (عملية برخان)، وأغلقت مجالها الجوي أمام عبور الطائرات العسكرية الفرنسية، وعارضت أن تكونَ منطقة شمال أفريقيا مركزًا لقوة “أفريكوم” الأميركية. والأرجح أنها في السياق نفسه تَمقُتُ وتُعارِضُ أنشطة روسيا في أفريقيا من خلال شركة “فاغنر” الخاصة و”الفيلق الأفريقي” التابع لوزارة الدفاع الروسية.

في أواخر تموز (يوليو) الماضي، ليس بعيدًا من حدود الجزائر، هاجمت فصائل أزوادية قواتٍ تابعةً لمجموعة “فاغنر” والجيش المالي في منطقة تنزاواتن شمال مالي. ألحق الهجوم خسائر فادحة في صفوف القوات المالية والروسية، نقلت صورها وسائل التواصل الاجتماعي. قالت أنباءٌ لاحقًا إن تلك الفصائل استفادت من مساعدة قوات خاصة أوكرانية حظيت بتسهيلاتٍ جزائرية. ولم يكن بالإمكان التحقّق من هذه الأنباء، لكن ذلك الدخان يصدر عن نارٍ تحت الرماد.

كان الردّ المالي-الروسي دمويًا. كشف مُتحدّثٌ باسم الانفصاليين الأزواد عن مقتل 21 مدنيًا بينهم 11 طفلًا، إضافةً إلى سقوط عشرات الجرحى “وأضرارٍ مادية كبيرة”. وقال إنَّ “جيشَ مالي والمرتزقة الروس من مجموعة “فاغنر” نفّذوا ضرباتٍ بمسيّرات أقلعت من بوركينا فاسو استهدفت تنزاواتن، على بُعدِ أمتارٍ من الأراضي الجزائرية”. لم تَسكُت الجزائر على ما يُعتبَرُ تجاوزًا روسيًا للخطوط الحمر.

في 26 آب (أغسطس) الماضي، دعا عمار بن جامع، ممثل الجزائر لدى الأمم المتحدة، إلى محاسبة “الجهات التي تسبّبت في مقتل أكثر من 20 مدنيًا ماليًا، جرّاء ما تقترفه بحق القانون الدولي الإنساني”، في إشارةٍ واضحة لمجموعة “فاغنر” الروسية. وأكّد المندوب الجزائري ضرورة “وقف انتهاكات الجيوش الخاصة التي تستعين بها بعض الدول”، مُحذّرًا من مغبّةِ “عدمِ مُساءلة تلك الأطراف بشأن انتهاكاتها وما تتسبّبَ فيه من تهديداتٍ وأخطارٍ على المنطقة”.

بدا أنَّ الجزائرَ أدخلت الخلافَ مع روسيا إلى ردهاتِ المنظّمة الدولية. حتى أنَّ موسكو ضربت “تحت الحزام” حين اتَّهَمَ نائب مندوبها لدى الأمم المتحدة، دِميتري بوليانسكي، في 8 آب (أغسطس) الماضي الدول الغربية باحتكارِ الحركة الأولمبية، وفَرضِ أجندة مجتمع الميم “بشكلٍ عدواني”، مُلَمّحًا ضمنًا إلى استفادة المُلاكِمة الجزائرية، إيمان خليف، من هذا الأمر في ألعاب باريس الأولمبية.

أوعزت الجزائر بالرَدّ، فرفضَ الديبلوماسي الجزائري في مجلس الأمن، توفيق كودري، بشدّة تصريحات بوليانسكي وقال: “إنَّ المُلاكِمة الشجاعة الآنسة إيمان خليف وُلِدَت أُنثى، وعاشت طفولتها ونشأتها ومراهقتها كأُنثى، ومارست الرياضة كأُنثى كاملة الأنوثة”. وأضاف كودري: “لا يوجد أدنى شك في هذا الأمر، باستثناء من أولئك الذين لديهم أجندة سياسية غامضة”. بدا أنَّ العلاقة مع روسيا ذات “الأجندات الغامضة” تأخُذُ شكل الردح وانتهاز فُرَص ذلك من دون تردُّد.

قبلَ ذلك، في أوائل آب (أغسطس) الماضي، سُجِّلَ تحرُّكٌ لقواتٍ تابعةٍ لـ”الجيش الوطني” الليبي التابعة لخليفة حفتر باتجاهِ جنوب البلاد على الحدود مع النيجر والجزائر. رأى بعضُ المصادر الليبية المناوئة لحفتر أنَّ هذه التحرُّكات هي لصالح روسيا التي تُعزّزُ حضورها في ليبيا، وتَدعَمُ حلفاء روسيا في تأمين الحدود الرابطة بين ليبيا والنيجر. وقد أضافَ بعضُ المعطيات أنَّ قواتَ حفتر تُرَكّزُ أيضًا على مدينة ومطار غدامس، بالقرب من الحدود مع الجزائر، ما يُضيفُ بُعدًا آخر للعملية.

غير أنَّ لهذا “العبث” بالقرب من حدود البلاد “عبق”، عتبًا جيوسياسيًا لافتًا. لا تخفي الجزائر امتعاضَها من رَفضِ طلبها الانضمام إلى مجموعة “بريكس” ومن خيبةِ أملٍ من روسيا من موقفها غير الودّي في هذا الصدد. لا تنسى تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عقب قمّة المجموعة في آب (أغسطس) 2023، إذ تبرّع حينها بفتوى تقول إن معايير توسيع المجموعة “تضمّنت الوزن السياسي وهيبة الدولة ومواقفها على الساحة الدولية”، بما اعتبرته الجزائر نَيلًا منها ومُبرِّرًا لرَفضِ طلبها بالانضمام إلى المجموعة.

زار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون موسكو في صيف العام الماضي، والتقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تبادلا الابتسامات وطقوس الودّ وأبرما الوثائق والاتفاقات وتحدّثا عن علاقاتٍ تاريخية واستراتيجية. بدت الجزائر مؤمنة في ذلك. وبدت روسيا لا ترى نقيضًا بين هذا “الحلف” وذلك الذي يجمع موسكو مع “خصوم” الجزائر على حدودها. وحين تستنطق موقف موسكو تأتيك ردودٌ تتحدّثُ عن “حقّ عودة” روسيا إلى القارة السوداء، بعد أن أُقصِيت عنها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ويكاد موقف موسكو يقول: “شاءت الجزائر ذلك أم أبت”.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى