إنقِلابُ لندن

محمّد قوّاص*

أجرى رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري تعديلًا وزاريًا شَمَلَ عددًا من الحقائبِ داخل حكومته. غير أنَّ التغييرات التي طرأت، خصوصًا على رأس وزارتَي الداخلية والخارجية، تعبّر عن تحوّلٍ لافتٍ في سياساتِ بريطانيا المقبلة في الداخل ومع المجتمع الدولي العام.

أطاحت التعديلات وزيرة الداخلية سويلا برافرمان التي ذاع صيتها خلال الأعوام الأخيرة. تنتمي “السيدة القوية” إلى الجناح اليميني داخل حزب المحافظين الحاكم، وهو الجناح نفسه الذي ينتمي إليه سوناك. ولطالما سببت مواقف برافرمان اليمينية المتطرّفة التي توصَف بالعنصرية، صخبًا وجدلًا وحَرَجًا للحكومات التي شاركت فيها. لكنّها بقيت، مع ذلك، في موقعها مُحَصَّنّة بدفاعاتِ الجناح اليميني القومي الذي برز موقعه ودوره في التحريض من أجل إنجاح ال”بريكسِت” والدفاع عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ورُغمَ ما تحظى به من مناعة لدى حزب المحافظين، اضطرّت برافرمان إلى الاستقالة في تشرين الأول (اكتوبر) 2022، حين كانت وزيرة للداخلية في حكومة ليز تروس، بسبب فضيحة استخدامها لبريدها الالكتروني الشخصي في مراسلاتٍ هي من صلب العمل الحكومي. غير أنّ خروجها من الحكومة لم يدم طويلًا، إذ أعاد سوناك تعيينها بعد أيام من استقالتها في المنصب نفسه حين اختاره الحزب زعيمًا له ورئيسًا لحكومة البلد. وقِيلَ حينها إنّ الأمر جرى ضمن صفقة تعويض لانسحابها من سباق زعامة الحزب ضدّ سوناك.

وقد عُرِفَت الوزيرة المُقالة بمواقفها المتشدّدة ضدّ المهاجرين وتصريحاتها العنصرية في صدد الهجرة. كما إنّها وراء “بدعة” إرسال المهاجرين غير الشرعيين إلى رواندا، وهو سلوكٌ عارضته محاكم أوروبا كما محاكم المملكة المتحدة، واستهجنته وأدانته المنظمات الحقوقية الدولية، وجاءَ مُنافيًا لسمعة بريطانيا العريقة كنظام ديموقراطي في مقدّمة المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم.

وقد أثارت برافرمان جدلًا واسعًا داخل بريطانيا حين وصفت في أيلول (سبتمبر) الماضي نموذج الاندماج الاجتماعي المُتَعَدِّد الثقافات في بريطانيا بأنّه تجربة فاشلة. واضطرَّ حينها رئيس الحكومة إلى انتقاد تصريحات وزيرته مُذَكّرًا بأنّه لولا هذا النموذج الناجح لما تمكّن وهو من أصول هندية، من تبوُّؤ المنصب التنفيذي الأول في البلاد. وتساءلت أوساطٌ بريطانية حينها عن وجاهة ومناسبة آراء الوزيرة، خصوصًا أنّها هي نفسها من أصولٍ هندية، فيما حكومات لندن تعجّ بوزراء من أصول أجنبية، ناهيك بانتخاب رئيس بلدية مسلم لمدينة لندن، وتبوُّؤ رئاسة حكومة اسكتلندا مثلاً من قِبل زعيم الحزب القومي هناك المتحدّر من أصولٍ باكستانية.

ويرى معارضو برافرمان، أنّها تتخذ مواقف يمينية متطرّفة “بيضاء” لتأكيد انتمائها إلى التيار الفكري اليميني القومي داخل الحزب ودفاعها عنه. ويعتبرون أنّ طموحاتها الدائمة لزعامة حزب المحافظين تُفسّرُ جنوحها نحو المواقف اللافتة والقصوى لجذب الصوت اليميني داخل الحزب وداخل الكتلة الناخبة للمملكة المتحدة. وقد لفت مقالها المثير للجدل الذي نشرته صحيفة “التايمز” في 8 من الشهر الجاري، انتقادها للشرطة البريطانية في قمع تظاهرات جماعات اليمين المتطرّف في البلاد، مقابل محاباة الشرطة للتظاهرات في التعامل مع الاحتجاجات المناصرة للفلسطينيين.

واتّخذت برافرمان منذ عملية “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي موقفًا داعمًا بشكلٍ مُفرط لإسرائيل، رافضةً وقف إطلاق النار في قطاع غزة. ووصفت المتظاهرين المناصرين لفلسطين بالغوغائيين، وأنّهم يقومون بـ”مسيرات كراهية” ويُحرّضون على العنف في البلاد. ولئن اتّسق موقف وزيرة الداخلية مع موقف بريطانيا الرسمي في دعم إسرائيل، لا سيما قيام رئيس الحكومة بزيارة إسرائيل للتعبير عن هذا الدعم، غير أنّ الوزيرة لم تُغيّر شيئًا من مواقفها على الرُغم من التحوّلِ الذي طرأ على سياسة لندن في هذا الملف لجهة المطالبة بتجنيب المدنيين ويلات الحرب الإسرائيلية والمطالبة، كما أوروبا والولايات المتحدة، بهدنٍ إنسانية عاجلة.

ولئن حظيت برافرمان بالحصانة حين أثارت سجالات وُصِفَت بالعنصرية في شأن الأجانب والمهاجرين والتعامل القانوني مع غير الشرعيين منهم، وأثارت استهجانًا وغضبًا بسبب تشكيكها بنموذج بريطانيا الاجتماعي الثقافي، إلّا أنّ الموقف من حرب غزة ومضيّها بعيدًا في دعم إسرائيل ومعاداة الشرطة والتظاهرات المدافعة عن الفلسطينيين، أسقط عنها “البركة”، ودفع سوناك إلى التعجيل بإجراءِ تعديلٍ حكومي واسع، كان من المُفترَض أن يجري نهاية هذا العام. وإذا ما أطاح حدث غزة بوزيرة الداخلية، فإنّه أيضاً أحدث إنقلابًا في وزارة الخارجية لجهة استدعاء رئيس الحكومة الأسبق ديفيد كاميرون لقيادة الديبلوماسية البريطانية في العالم.

والواضح أنّ السياسة الخارجية البريطانية اتخذت مسارًا في العلاقات الدولية، مُتأثّرًا بمرحلة ال”بريكسِت” التي تطلّبت قيامَ سياسةٍ خارجية عقائدية تتخلّص من أثقالِ “الحقبة الأوروبية” للالتحاق بخياراتٍ ظهر أنّها باتت قريبة من “الترامبية” في الولايات المتحدة ومن النهج اليميني القومي المُعتَمَد في العالم. واعتمدت تلك السياسة على إقامة شبكة علاقات دولية جديدة، تكون بديلة من تلك التي كانت مع الاتحاد الأوروبي. وفيما بدا أنّ أوروبا في داخل أو خارج الاتحاد تنتهجُ مساراتَ تحوّلٍ ورشاقةٍ في مقاربة أزمة غزة والعلاقة مع الشرق الأوسط، فإنّ بريطانيا بدت مُكبّلة مشلولة عاجزة عن إجراء هذه التحوّلات.

وإذا ما أطاحت غزة بوزيرة الداخلية في بريطانيا، فإنّها أعادت إلى واجهة الحكم ديفيد كاميرون الذي لا ينتمي إلى الجناح اليميني لحزب المحافظين، والذي كان مُعاديًا لـ”بريكست” ومدافعًا عن بقاء المملكة المتحدة داخل الاتحاد الأوروبي. وقد قاد الرجل الحزب لمدة 11 عامًا منها 6 أعوام رئيسًا للحكومة. وكان اضطر إلى مجاراة الجناح اليميني في حزبه، بالموافقة على إجراءِ استفتاءٍ للخروج من الاتحاد الأوروبي في العام 2016، مُتوقِّعًا أن يكونَ فاشلًا لا يحظى بالأغلبية. واضطرَّ لاحقًا إلى تقديم استقالته بعدما أظهرت النتائج أغلبية بريطانية بسيطة لإخراج البلد من النادي الأوروبي.

يعود كاميرون إلى العمل الحكومي بعد 7 سنوات من الغياب. كان سوناك قد اتّهمه قبل أسابيع فقط بأنّه كان جُزءًا من مرحلة الستاتيكو الفاشلة خلال مرحلة سابقة. وكان كاميرون تعرّضَ في العام 2021 لتحقيقٍ برلماني بسبب فضيحة محاولته الاستعانة بمسؤولين سياسيين كبار لتسويق شركة مالية كان يمتلك فيها أسهمًا. ومع ذلك استدعى سوناك الرجل وكأنّه حاجة لإنقاذ الحكومة والحزب معًا.

يُمثّلُ كاميرون تيارَ الاعتدال والوسط داخل حزب المحافظين. ويُنهي هذا التعيين هيمنة ال”بريكستيين” على توجّهات الدولة، ويعترف بأنّ الجنوح نحو الخيارات والمواقف اليمينية لم يعد ضامنًا لمَنحِ الحزب الأغلبية في الانتخابات التشريعية العامة التي ستجري في نهاية العام المقبل. فاستطلاعاتُ الرأي في الشهر الماضي أظهرت تقدّمًا لحزب العمال المعارض بـ 20 نقطة عن حزب المحافظين، ما يتطلّب من سوناك معالجة جذرية قد تكون السبب الحقيقي وراء إعادة إحياء كاميرون سياسيًا.

ويُمثّلُ كاميرون نهجًا مُنفتِحًا في علاقات بريطانيا مع العالم. ويعني تسليم وزارة الخارجية لبقائي (أي مدافع عن البقاء في الاتحاد الأوروبي) اعترافًا من قبل ال”بريكستيين” بالحاجة الملحّة إلى علاقات أشدّ قربًا ومتانة مع النادي الأوروبي الذي يمثّل بالنسبة إلى بريطانيا سوقًا من 27 دولة. وتستدعي لندن زعيم المحافظين الأسبق من جديد، بعد أن شهدت هذه الزعامة وجوهًا وتجارب من التطرّف والتوتر، بهدف إعادة وصل السياسة الخارجية لبريطانيا أيضًا مع السياق الغربي العام، لا سيما في تحوّلاته الحالية والمُرتَقبة إزاء الحرب في غزة، والعلاقة مع العالمَين العربي والإسلامي بعد المواقف التي صدرت في قمة الرياض المشتركة الأخيرة.

ما حَصَلَ هو تعديلٌ حكومي بطَعمِ الانقلاب. أطاح الحدثُ نمطًا حكوميًا لاستبداله على عجلٍ بنمطٍ حكومي آخر. فعلت غزة ذلك، وإن سيصعب الاعتراف في بريطانيا بما أحدثه الشرق الأوسط داخل غُرَفِ القرار في لندن. لكنَّ “الانقلاب” يُشرّعُ الأبوابَ أمام صراع أجنحة داخل حزب المحافظين قد يُطيحُ سوناك نفسه إذا ما نجح أنصار برافرمان اليمينيين في تأمين أصوات حزبية كافية لسحب الثقة من زعيم الحزب والاتجاه إلى انتخاب بديل.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى