لماذا إذلال المُتقاعدين في لبنان؟

الدكتور هيكل الراعي*

تُناقِشُ الحكومةُ اللبنانية كَيفِيَّةَ إعادةِ العاملين في الإدارات والمؤسّسات العامة في البلاد إلى العملِ من خلالِ تحسين القدرة الشرائية لرواتبهم، وذلك بهدفِ إعادةِ العجلة إلى الإدارات العامة وخصوصًا تلك التي تُؤمِّنُ الموارد المالية للدولة. وقد شُكِّلَت لجانٌ قدَّمت اقتراحات تحت تسمياتٍ تمّ اختراعها كالحوافز الانتاجية، والمساعدات الاجتماعية، وبدلات النقل اليومية!!! وتلحظُ الاقتراحات إعطاء المتقاعدين راتبَين إضافيَين بحيث تصبح حوالي 40 في المئة من رواتب العاملين، بينما كانت رواتب المتقاعدين تصل إلى  85 في المئة من رواتب الموجودين في الخدمة. وقد أدّى ذلك إلى تظاهرات نظّمها المتقاعدون (عسكريون ومدنيون) مُطالبين بإنصافهم.
في ظلِّ هذه الأجواء، ومن قلب المُعاناة التي يعيشها الشرفاء و”الأوادم”، الذين لم تتلوّث أياديهم بمالٍ حَرام، اتصلَ بي البارحة زميلٌ، وهو أستاذٌ جامعي متقاعد، وقال:” هل تذكر يا زميلي وصديقي مُعاناتنا للحصول على الشهادة الجامعية، وكَيفَ كُنّا نذهب بالبوسطة من الضيعة في الجبل إلى بيروت، لنعود في أواخر الليالي؟ وهل تذكر مُعاناتنا مع الثلج وانقطاع الطرقات وسائق البوسطة جرجس الذي كان يدّعي أنه خبيرٌ ميكانيكي، ويتّكل على سواعدنا للدفش كُلّما تعطّلت البوسطة؟”.
قُلتُ: “نعم أذكر تلك الأيام، وأذكرُ زميلنا ورفيقنا في رحلات البوسطة عصام الذي قرّر بعد السنة الثانية أن يُغادِرَ الجامعة ويذهبُ للعمل مع صهره في معمل الالومينيوم، ويسكن اليوم في فيللا على رأس التلّة المشرفة على القرية، ولديه اليوم ثلاث سيارات تحمل أرقاماً مُمَيَّزة”.
أجاب: “طبعًا أذكرُ عصام. لقد التقيته قبل أيام بعد عودته من رحلةٍ سياحية إلى إيطاليا برفقة زوجته وأولاده، وأخبرني عن تفاصيل رحلته”. وأضاف:” لقد تعبنا وشقينا وعانينا للحصول على الإجازة من الجامعة اللبنانية (لم تكن يومها للجامعة فروعٌ في المناطق)، وسافرنا إلى باريس للحصول على شهادة الدكتوراه مُتَّكِلين على بعض ما جمع الأهل من مُدَّخرات تعبوا كثيرًا للحصول عليها”.
قلتُ: “نعم، أذكرُ كُلَّ ذلك وأذكرُ كَيفَ كُنّا نتناوب على العمل كحَرَسٍ ليلي في ذلك الفندق الصغير قرب “برج إيفل”، وكيفَ كُنّا نركضُ مُسرِعين للحصول على دورٍ للاتصالِ بالأهل من هاتفٍ عمومي، قام أحدهم بتعطيله، كي لا ندفع بدل المكالمات”. وسألته: “لماذا تتصل بي والحزن يُغلّفُ صوتك؟”
أجاب: “بعد أن أنهيتُ أطروحة الدكتوراه عُدتُ إلى لبنان والتحقتُ بالجامعة اللبنانية استاذًا مُتَفَرِّغًا ثم في الملاك. وخلال سنوات عملي التي جاوزت العقود الثلاثة كانت الدولة تحسم 6 في المئة من راتبي كمحسومات تقاعدية، كي تُعيدها لي كرواتب عندما أبلغ سن التقاعد”. وأضاف: “عملتُ أنا وزوجتي وتعبنا وحرمنا أنفسنا من ملذّات كثيرة كي نُرَبّي أولادنا ونؤمّنُ لهم الحياة الكريمة. بنينا منزلًا نعيش فيه، وكنا نلجأ إلى توفير مبلغ من المال أودعناه في أحد المصارف كي نستعمله لاحقًا في تأمين حاجاتنا. ولكن بعد ثورة تشرين (أكتوبر) 2019 تبخّرت وديعتنا من المصرف وتدنّى راتبي التقاعدي إلى أقل من 10 في المئة عمّا كان قبل الثورة”.
قاطعته قائلًا: “إسمح لي يا زميلي وصديقي أن أُصَحِّحَ بعضَ الكلمات التي استعملتها. فما حدث في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 لم يكن ثورة ولا يشبه الثورات. لقد قامت عصابات سياسية، بدعم من سفارات أجنبية، وبالتنسيق مع مافيا أصحاب المصارف، بتنظيم ودعم التحركات الشعبية مستغلين أوجاع الناس وتذمرهم. وعندما انتهى الدور المطلوب لهذه الاحتجاجات، اختفى “الثوار” الذين كانوا يقودون الجماهير، ولم نعد نسمع بهم ولو عبر موقف احتجاجي اعلامي، مع أنَّ الأزمة الاقتصادية المعيشية زادت حدتها أضعاف ما كانت عليه قبل العام 2019. أما بالنسبة إلى الودائع التي تبخرت والرواتب التي تقلّصت، فمن المعروف اقتصاديًا أنَّ الأموال لا تتبخّر بل تنتقل من جيبٍ إلى جيبٍ آخر ومن حسابٍ إلى حساب. والأموال المودعة في المصارف تمت سرقتها من أصحاب المصارف، وهم مسؤولون مباشرون عنها، ومن العصابات السياسية الحاكمة. وكذلك بالنسبة إلى المحسومات التقاعدية الموضوعة كأمانة لدى وزارة المالية، والتي سُرقت أيضًا من العصابات ذاتها، فكان يجب ان تُدار إدارة حكيمة من قبل المسؤولين عنها، كي يُعيدونها إلى أصحابها”.
قاطعني قائلًا: “أفهم تحليلك وأقدره لأنك أخبر مني في الشؤون الاقتصادية والمالية، ولكن دعني أخبرك لماذا اتصلتُ بك”.
قلتُ: “تفضّل فأنا جاهز لذلك”.
أجاب: ” البارحة جاء العامل الذي يسكن غرفة مع زوجته قرب منزلي (أنت تعرفه) مُوَدّعًا، لأنه سينتقل للعمل كناطور في ورشة بناء حيث سيحصل على غرفةٍ مع كهرباء وإنترنِت وراتب 300 دولار شهريًا”. وأضاف الزميل الدكتور: “بعد دعائي للعامل بالتوفيق ومغادرته، نظرتُ إلى شهادة الدكتوراه المُعلّقة على الحائط مُعتَذرًا، لأنني بعد 35 سنة من التدريس الجامعي، وبعد تخريج آلاف الطلاب، وبينهم مَن يحتلون مراكز عُليا في لبنان والخارج؛ وبفضل سرقة ونهب العصابات السياسية والمصرفية الحاكمة، كما قلت، أصبح راتبي يوازي أو أقل من راتب ناطور في ورشة بناء. فأنا أدفع إيجار منزلي وفواتير الكهرباء والمياه والهاتف والإنترنت إضافة إلى الرسوم والضرائب المختلفة، وأنا محروم من العناية الصحية (لأن تغطية صندوق التعاضد أصبحت هزيلة)، وراتبي التقاعدي لا يتجاوز ال400 دولار؛ بينما ناطور ورشة البناء يحصل على سكن وكهرباء وإنترنت وراتب (300 دولار)، إضافة إلى مساعدات ورعاية صحية من المنظمات الدولية!!!! ولا يدفع أي ضرائب أو رسوم”.
وختم: “اعتذرت مرةً أخرى من شهادتي التي تمنعني من أن أكون زميلًا لهذا العامل في ورشة بناء أخرى، وذهبتُ إلى فراشي طامعًا أن أحلمَ بدولةٍ فيها مسؤولون يعرفون معنى الكرامة الإنسانية”.
قلت: ” أفهم وأقدّر معاناتك يا صديقي، ولولا هجرتي ومغادرتي الوطن الذي أُحب وأتمنى العيش فيه، ربما كان وضعي أسوأ من وضعك. ولكنني أراهن على يومٍ سيعي فيه اللبنانيون ماذا فعلوا وماذا جنت أيديهم من خلال السكوت، أو ربما التواطؤ، مع جرائم هذه العصابات”.

  • الدكتور هيكل الراعي هو باحث لبناني وأستاذ جامعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى