لبنان: الثُلاثِيّةُ المَطلوبَةُ للإنقاذ

ناصيف حتّي*

نُؤَخِّرُ أو نُقَدِّمُ الساعة، جَدَلٌ أَخَذَ بسرعة مَنحًى طائفيًّا في لبنان، رُغمَ نُكرانِ ذلك من قِبَلِ أطرافِ الإشتباك، قَبلَ أن يُحسَمَ الأمرُ في مجلس الوزراء. حَصَلت “معركةُ التوقيت” ونحنُ في اللحظاتِ الأخيرة قبلَ أن نُصبِحَ خارجَ الزمان مع الانسدادِ السياسيِّ الحاصلِ بشأن انتخابِ رئيسٍ للجمهورية، وتسارُعِ وَتيرةِ الانهيار. من أبرزِ دلالاتِ هذا الانهيار السقوط المُستَمِرّ والسريع للعملة الوطنية وما يدل عليه هذا السقوط وما يحمله من تداعيات قاتلة على حياة المواطن اللبناني .

يُريدُ البعضُ أن نتحاوَرَ حول اختيارِ الرئيس، وبعدها ننتخبه في المجلس النيابي. ويُريدُ البعضُ الآخر أن نتحاوَرَ فقط في الشأن الاقتصادي الضاغط والقاتل الذي، رُغمَ أهمّيَته وضرورته بالطبع، يحتاج إلى حاضنةٍ سياسية تقومُ على تفاهمٍ فاعل .الأمرُ الذي يستدعي ايضًا التحاورَ في السياسة. فنحن، للتذكير، نتحدّث عن دولةٍ مُفلِسة، وليس عن شركةٍ خاصةٍ مُفلِسة، رُغمَ أنَّ التعامُلَ مع الدولة من طرَفِ السلطة المُمسِكة بزمام الأمور كانَ دائمًا بمنطقِ تقاسمِ “الأسهُمِ والحصص والأرباح”. دولةٌ تمَّت خصخصتها بالفعل أو بالممارسة من طرف السلطة ذاتها في إدارتها للشأن العام. المطلوبُ إعادةُ تَصويب المسار، مَسارُ طريق المستقبل ونحن على مفترق طرق بين ولوج طريق الإنقاذ أو الاستمرار في الطريق ذاته الذي نحن فيه منذ زمان حتى الانهيار  الكلّي، وتحوّل لبنان الى ما يُعرَف ب”الدولة الفاشلة”والمؤشّرات إلى ذلك  كثيرة.

تصويبُ المسار يَفتَرِضُ ولوجَ بابِ الإصلاح  الشامل المطلوب ولو التدرّجي الذي هو شأنٌ  سياسيٌّ أساسًا يفترض وجود قرار سياسي بهذا الخصوص، قبل أي شيءٍ آخر. الأمرُ الذي يستدعي توفيرَ “رباعيّ” قوامه الإرادة والرؤية والبرنامج وخريطة الطريق: إنه الجواب المطلوب لإسقاطِ الانسداد الحاصل والقاتل والتدهور السريع والمُريع على الأرض في كافة الأوجه والأبعاد. هذه كلُّها خلقت ظروفًا موضوعية ضاغطة لا يمكن التخلص منها مُقارنةً مع ما كان يحصل في الماضي بواسطة “المراهم والمُسَكّنات” لشراء الوقت كما يتخوَّف او يحذّر البعض أو يتمنى ويراهن البعض الآخر. علاقاتنا مع العالم ايضًا، أو ترميم هذه العلاقات، وإعادة التموضع بالفعل في موقعٍ وسطيٍّ أمرٌ أو شرطٌ أكثر من ضروري لتنجح مسيرة الإصلاح المطلوب. والجدير بالذكر أنَّ الإصلاحَ غير كافٍ إذا ما ارتبط فقط بالشأن المالي من دون تناول الشأنين الاقتصادي والسياسي.

المسارُ التغييري الذي أطلقه الإتفاق السعودي-الإيراني ستكون له تداعيات إيجابية في المنطقة، ولو أنَّ هذه التداعيات قد تأتي بأوقاتٍ مختلفة وستطال لبنان بدون شك. ولكن حذار التفكير كما جرت العادة في لبنان أنَّ التفاهمَ الخارجي بين أصدقاء أو حلفاء المكوّنات السياسية اللبنانية المتخاصمة والمتقاتلة كفيلٌ وحده بالتغلّبِ على الأزمة المُتعَدِّدة الأبعاد التي تشلُّ البلد وتُهدّد وجوده. إنَّ التفاهمَ الخارجي يُسهِّلُ، بدون شك، العمل على بلورة التفاهم الداخلي. ولكننا اليوم في وضعٍ يختلفُ كلّيًا عن الأمس البعيد والقريب، عندما كان التفاهم الخارجي يخلق هدنةً أو تفاهُمًا أو يُحدِثُ توازنًا جديدًا في الداخل اللبناني كفيل وحده بقلب الصفحة ومنع الانهيار أو الانفجار. اختلفت الظروف اليوم من حيث حدّة وطبيعة ومخاطر الأزمة الحاصلة والمستمرة والذاهبة بلبنان نحو الإنهيارِ المُتسارِعِ على كافة الصُعُد. ولا بدَّ بالتالي من التذكير أنَّ بدءَ عملية الإنقاذ الوطني هي مسؤولية لبنانية أساسًا، تستدعي بلورةَ رؤية إنقاذية شاملة وبرنامج عملٍ إصلاحيٍّ يتناول كافة مجالات الحياة الوطنية من المالي إلى الاقتصادي وكذلك إلى الإجتماعي والسياسي، بشكلٍ تدرّجي وعلى أساسِ جدولٍ زمنيٍّ واضحٍ ومُلزِمٍ لأصحابِ السلطة لاحترامه. أصدقاءُ لبنان من منظمات ودول الذين عملوا ويعملون على تسهيل وتعزيز هذا التفاهم عليهم مسؤولية أساسية في مواكبة رحلة الإنقاذ متى أُطلِقَت وكذلك مسارها وتدرّجاتها لتُحقِّق أهدافها المطلوبة والأكثر من ضرورية.

إن تعزيزَ الاستقرار المُجتَمعي المَبني على أُسُسٍ قوية وثابتة مصلحةٌ لبنانية أساسية وشرطٌ ضروري للتنمية الإنسانية الشاملة للبنان التي تُعزّز بدورها هذا النوع من الاستقرار المرغوب والمطلوب. هذا الاستقرار يبقى ايضًا مصلحةً إقليميّة ودولية نظرًا إلى موقع لبنان في الجغرافيا الاستراتيجية في المنطقة وجاذبيته بسبب هذا الموقع من جهة، وإلى هشاشة الوضع اللبناني بسببِ ارتهانِ الدولة ومُصادَرة دورها من طرف منظومةِ الطائفية  السياسية المُتَحكِّمة بالسلطة من جهةٍ أُخرى. فالإصلاحُ الشاملُ يجبُ أن يكونَ هدفًا استراتيجيًا لإعادة تكوين السلطة من خلالِ الذهابِ التدريجي نحو بناء الدولة المدنية على حسابِ نموذجِ فيدِراليةِ الأمر الواقع للطائفية المُمسكة بالبلاد والعباد. ذلك كله يتطلّب بناءَ دولةِ المؤسّسات وتعزيزَ ثقافةِ المواطَنة بالفِعلِ وليس بالشعارات، والانتقال من نموذجِ الاقتصادِ الرَيعي لتبنّي نموذجِ الاقتصادِ المُنتِج وإيلاء الأهمّية الضرورية في عملية التنمية للأطراف الجغرافية المُهَمَّشة في الخريطة الوطنية. الأطرافُ التي تنتمي إلى الوطن بالفعل في الجغرافيا وليس في السياسة أو الإقتصاد أو الإجتماع. كذلك يجب إيلاءُ الأهمية القصوى للطبقات الفقيرة، والتي  تزدادُ توسّعًا بشكلٍ كبيرٍ في خضمّ الأزمة الراهنة. ذلك كلّه يستدعي إقامةَ شبكةِ أمانٍ إجتماعي واسعة، الأمرُ الأكثر من ضروري لخَلقِ استقرارٍ فِعليٍّ وصَلب. المطلوبُ أن نعملَ على بَلوَرةِ البرنامجِ الإصلاحي للإنقاذ والذي تشاركَت في صياغته كافة المكوِّنات الوطنية. البرنامجُ الذي يُفتَرَضُ أن يُتَرجِمَ الرؤية لمشروعِ إعادةِ بناءِ السلطة. مشروعٌ  يجبُ أن يَعكُسَ، كما يُعزّز مفهوم الدولة الوطنية: دولةُ المؤسّسات والمُساءلة وحُكم القانون والعدالة الاجتماعية والاقتصاد المُنتِج وليس الاقتصاد الرَيعي .

خُلاصةُ الأمر، إننا نواجه اليوم عمليًّا تحدِّياتٍ  ثلاثة مُترابِطة ومُتكاملة قِوامُها انتخابُ رئيسٍ للجمهورية لا يُمثّلُ تحدّيًا لهذا الفريق أو ذاك، وتشكيلُ حكومةٍ تكونُ بمثابةِ فريقِ عَملٍ مع رأس الدولة، والبدء ببلورة البرنامج الإصلاحي الشامل من خلالِ حوارٍ هادفٍ وعَدَم الاكتفاءِ بعناوين من دون مضامين. حوارٌ لا يُؤَخِّر لا بل يُسهِّل الانتخاب وتشكيل الحكومة المطلوبة.

مسارٌ ليس بالمستحيل إذا ما تَوَفَّرت القناعة، ومن مُنطَلَقٍ شديد الواقعية. إنَّ هذا المسار الذي بدون شكّ أمامه صعوبات كثيرة هو الطريق الوحيد لتلافي غرق “المركب اللبناني” كما حذّرنا دائمًا، و للولوج بلبنان إلى برِّ الأمان.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى