الرياض – طهران : ودٌّ ووِئامٌ … بعدَ جفاءٍ وخِصام؟!

عبد الرحمن عبد المولى الصلح*

في كتاب “لبنان وصيف الدم 1958”- وثائق التنصّت على الهاتف (دار كتب للنشر، بيروت 2021) الذي يتضمّن سجلّات التنصُّت على المكالمات الهاتفية للمجموعات السياسية آنذاك، والتي كانت بحوزة الأمير فريد شهاب المدير العام السابق للأمن العام بين 1948- 1958، يستعرض الصحافي أحمد أصفهاني مُعدّ الكتاب نُسخاً من سجلّات التنصُّت، والذي بالإمكان استخلاص أمور عدة منها، أهمّها اثنان: المنحى الطائفي الشوفيني الذي ساد مضمون الاتصالات الهاتفية للأطراف السياسية (وما أشبه اليوم بالأمس من خلال محاولات وزير الطاقة الأبدي جبران باسيل والذي يعتبر نفسه حامي المسيحيين ووصيّاً على تعاليم السيد المسيح (راجع تصريحه بعد زيارته لبكركي 4-2021). الأمر الثاني، العامل الإقليمي الضاغط على الوضع المحلّي من خلال، على سبيل المثال لا الحصر، حلف بغداد 1955، وحدة مصر وسوريا 1958، والردّ على الوحدة من خلال السعي لإنشاءِ حلفٍ هاشمي يجمع بين العراق والأردن، إلى تفاهم فؤاد شهاب وعبد الناصر 1958… الخ. كان لبنانُ رهينةَ صراعٍ إقليمي ولا يزال ولكن مع تغيير اللاعبين! مناسبة الحديث عمّا سبق اللقاء السعودي-الإيراني الذي استضافته بغداد والذي كُشف النّقاب عنه أخيراً. وكانت “رويترز” (21-4-2021) نقلت عن أربعة مصادر، بينهم ديبلوماسي، أن إيران وعدت باستخدام نفوذها لوقف هجمات الحوثيين على السعودية، وطلبت في المقابل أن تدعم الرياض المحادثات النووية، وذلك خلال محادثات جمعتها بالجانب السعودي في بغداد خلال وقت سابق من شهر نيسان (إبريل) الجاري، ومن المقرّر أن تنعقد جولة ثانية قريبًا. ونقلت الوكالة عن مسؤولين في الشرق الأوسط ومصادر مطلعة أن الجولة الثانية من المحادثات ستنعقد هذا الشهر، لكن لم يتحدّد بعد موعدٌ لها. وبحسب مصادر الوكالة، فقد كان التركيز الأساسي في المحادثات بين الطرفين حتى الآن على اليمن، حيث يُصعّد الحوثيون هجماتهم الصاروخية وعبر الطائرات المُسيّرة على السعودية. وأضافت “رويترز” أن الاجتماع تطرق أيضاً لقضية لبنان، حيث تشعر الرياض بالقلق إزاء النفوذ المتزايد لجماعة “حزب الله” المدعومة من إيران.

الثابت أن حالنا اليوم كما كان حالنا في الأمس، فالاستقرار المحلي مُرتبطٌ بالاستقرار الإقليمي. والثابت أيضاً ان لبنان اليوم يدفع ثمن عدم وفاق سعودي-إيراني بخاصّة في ضوء سيطرة نظام الملالي على مقادير الأمور في لبنان معطوف عليه مباركة وتحالف تيار سياسي كان سابقاً حرّاً ووطنيّاً! وعلى عكس ما فعلته وتفعله طهران، فالرياض، منذ ستينات القرن الماضي لحينه لم تفرض على بلاد الأرز أجندتها ولم تتحكّم بالمسار السياسي للبلاد بل حضّت لبنان واللبنانيين على التوافق وأكبر دليل على ذلك اتفاق الطائف 1989 والذي انهى حروباً متناسلة، وعملت أيضاً على الإنسحاب العسكري السوري من لبنان. في محضر الإجتماع الذي عُقد بين جايمس بايكر وزير الخارجية الأميركي والأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي، يقول سعود الفيصل أن دمشق طلبت ملياري دولار ثمناً لإنسحابها من لبنان وإن بلاده لن تُمانع في دفع ذلك ولكن بالتقسيط. (أمين الجميل، “الرئاسة المقاومة” بيت المستقبل 2020)، ثم انّها كانت دائماً تسعى إلى تكريس ليبراليّة لبنان واستقلاله. لا تملك الرياض مشروعاً دينيّاً سلطويّاً تسعى، كطهران، لفرضه على دول الجوار. والذي يثيرالدهشة ان طهران لا تأخذ بعين الاعتبار ردّات الفعل على مشروعها التوسّعي السلطوي الديني القائم على نظريّة ولاية الفقيه من خلال جعل العرب الشيعة حزباً تابعاً لها وربطهم بمرجعيّة دينية ادّت إلى زعزعة وخلخلة الدولة الوطنية، الأمر الذي نتج عنه مشروع داعش الإرهابي والذي نشأ في العراق وتمدّد إلى سوريا، ووصلت شظاياه إلى لبنان وعواصم دولية أخرى! هناك أسباب عدة حفّزت لللقاء السعودي-الإيراني في بغداد، أهمّها إطالة الحرب في اليمن واشتداد وطأتها. وللتذكير فقط فعندما بدأت الحرب منذ 6 سنوات نشر ضاحي خلفان نائب قوّات الشرطة في دولة الإمارات تغريدةً قال فيها: “لا ضرورة لهذه الحروب فنتائجها غير مضمونة إضافة الى كلفتها العالية، فالأفضل والأنجح أن نشتري الرئيس اليمني عبد الله صالح آنذاك ب 300 او 400 مليون دولار وهذا كفيل بأن تميل الكفّة لمصلحتنا”. عدم ضمان إيران وحلفائها الحوثيين كسب الحرب وذلك نتيجة الضغط العسكري للتحالف السعودي-الإماراتي، الإنهاك الذي أصاب الطرفين، الاستهداف العسكري الإيراني – عبر حوثيي اليمن للمنشآت النفطية في السعودية، التقارب الاسرائيلي-الخليجي، التوجه الجديد للسياسة الأميركية بعد انتخاب جو بايدن والذي يجنح إلى إزالة التوتر في المنطقة عكس ما كان الحال يوم سلفه دونالد ترامب، ولقد تُرجم ذلك من خلال المصالحة الخليجية بين قطر والسعودية والإمارات. ثم انّه ليس هناك ما يبرّر استمرار العداوة بين البلدين ولعلّ من المفيد العمل على ايجاد تصور مشترك قائم على اعتراف البلدين بالأخطار التي تواجههما ومن ثمّ اعتماد مبادئ لحل النزاع. لا محالة من ازالة الشك والريبة بين البلدين فالسعودية تشعر أن إيران تُضيِّق الخناق عليها من خلال المجموعات التي تتبع طهران، في حين تعترف طهران ان الرياض تُشكل عاملاً مُسهّلاً كي تُلحق واشنطن بها المزيد من الأضرار. ثم ان الرياض تعتبر ان الصواريخ الباليستية الإيرانية تُشكّل تهديداً لأمنها القومي، في حين ترى طهران ان اقتناء السعودية للأسلحة الغربية المتطورة يُشكّل إخلالاً للتوازن في المنطقة.

اللقاء الذي جمع بين رئيس المخابرات السعودية خالد الحميدان وسعيد عرفاني نائب أمين المجلس الاعلى للأمن القومي الإيراني شكّل أقل ما يوصَف بالمفاجأة السياسية ذلك أنه لم يكن من المتوقّع في ظل التصعيد الاعلامي بين الطرفين أن يجلس الطرفان على طاولة المفاوضات. الثابت ان واشنطن كانت على علم بها، أما موسكو فيبدو أنها رحّبت بما جرى في بغداد فعلى أجندتها العمل على تقارب ايراني-سعودي والدول العربية ردّاً على ما سُمّي بمشروع الناتو العربي والذي يجمع الدول العربية واسرائيل ضد إيران. كما يبدو أن موسكو ترى ان الأجواء الإيجابية التي تسود المفاوضات بين واشنطن وطهران قد تساهم بجعل الرياض تُبدي مرونة أكثر في التعاطي مع الملفات المطروحة.

بالعودة إلى المفاوضات التي جرت في بغداد بين الطرفين تجدر الإشارة إلى ان العلاقات السعودية-الإيرانية لم تكن يوماً مستقرّة بل تراوحت منذ اكثر من 40 عاماً بين التعاون، التصادم، والمنافسة، ولعلّ اجراء المفاوضات التي جرت أخيراً ليبيّن ان العداوة بين البلدين ليست قدراً. في كتاب صدر في لندن ” “Iran and Saudi Arabian” –taming a Chaotic Conflict (ايران والسعودية ترويض صراع فوضوي”، لمؤلفه ابراهيم فريحات، دار نشر أدنبرا 2020). تنبّأ فريحات بحتميّة جلوس الرياض وطهران على طاولة المفاوضات. من هنا، بإمكان تصينف كتابه بالكتاب الاستشرافي. يؤمن فريحات ان اسدال الصراع بين السعودية وإيران كفيل بإنهاء مروحة كبيرة من النزاعات في الشرق الأوسط. ويضيف أن أسباب ذلك الصراع متعدّدة أهمها الطائفية والأمن، البُعد القومي والتحديّات الجيوسياسية، إضافة إلى التنافس على القيادة الإقليمية، ثم ان جذور التراكم التاريخي للصراع بين السعودية وإيران يعود إلى تاريخ القوميات العربية والفارسية، وكذلك التباين بين المذاهب (سُنّة- شيعة) لكنّه من المرجّح، حسب قوله، ان ما سمّي بالثورة الاسلامية بقيادة الإمام الخميني والغزو الأميركي للعراق شكّلا المُحرّك الدافع لمسار الصراع والعمل على استدامته، من هنا أهمية إيجاد لجان التنسيق بين دولتين وفتح قنوات اتصال (كما جرى أخيراً في بغداد) وذلك بهدف تخفيف المخاوف السعودية من جهة وتقليص التعنُّد الإيراني من جهة أخرى إنطلاقاً من مبدأ رابح/رابح ( (win winلكنّه يُضيف أن حل النزاع بين البلدين والوصول إلى بناء آلية واضحة للسلام لا يتم فقط من خلال الحكومتين بل من خلال ترسيخ السلام على المستوى الشعبي الأمر الذي يضمن تزواج الرسمي والمجتمعي لينتج عنه سلام صلب. ويُضيف الكاتب إلى ان انعدام الثقة بين الطرفين يحتّم بناء ما يُسمّيه باستراتيجية ادارة الصراع، ويقترح ان تلعب تركيا وباكستان وهما قوّتان إقليميّتان، دور الوسيط لردم الهوّة بين الرياض وطهران بحيث لا يغدو الأمن الخليجي امتداداً لقوّة عظمى بل ترسيخاً لأمن خليجي دائم قائم على أساس المصلحة المتبادلة بخاصّةً وإن لباكستان حدوداً مشتركة مع ايران التي تبلغ 900 كلم … بحيث تُشكّل باكستان ضماناً للتوازن بين ايران والسعودية. في مقال سابق لي (“إسرائيل حجر الرُّحى… وحاجة عربية وإسرائيلية” “النهار” 1-10-2020) أشرتُ إلى لقاء جرى بيني وبين المعارض العراقي أحمد الجلبي والذي اشار فيه إلى أنه يسعى لاقتراحٍ يوطّد العلاقات الاقتصادية بين إيران ودول الخليج إضافةً إلى تركيا قائلاً أن تحقيق ذلك الاقتراح سوف يؤدّي إلى ازدهار المنطقة على مختلف الصعد. بطبيعة الحال أشار الجلبي ان ذلك متوقف على ازالة التوتر السياسي بين الاطراف المعنية. صحيح أننا لا نزال في بداية الطريق ولكن بإمكان المراقب ان يستشف ان هناك تصميماً لدى الطرفين لتبريد الأجواء والاتفاق على مسارٍ لتخفيف التوتر وصولاً إلى استقرار ولو شبه دائم. تُرى، هل بالإمكان في المدى الطويل إقامة منظمة الامن والتعاون شبيهة باتفاقية هلسنكي لعام 1975؟ صحيح انها لم تضع نهاية للصراع بين واشنطن وموسكو لكنها عملت في جعل العلاقات منتظمة وبناءة ونتج عنها قواعد وآليّات لفض النزاع.

مرة أخرى ليس من العدالة أن يبقى لبنان ذلك البلد الصغير والذي نسعى دائماً كي يكون لبنان الديموقراطي الحر العلماني المستقل … أسير حسابات طهران الإقليمية. في النهاية ما يهم اللبنانيون الاوفياء ان ينزل الاتفاق السعودي-الايراني على لبنان وعلى قلوبهم برداً وسلاماً على أمل أن يؤدي ذلك الى استقرار دائم ينتشل لبنان من مصاعبه ومصائبه، فلا جدال ولا شك ان طهران تُمسك بالقرار اللبناني وتُهيمن على الحراك السياسي وعلى المكوّن الشيعي في بلاد الأرز، ولقد كُتب الكثير عن هذا الموضوع آخرها مقال الصديق جهاد الزين ” الاستنزال الايراني لشيعة لبنان” (النهار، 20-4-2021) وفيه يتساءل الزين عن الجمود القاتل لا بل “التجميد” القاتل الناتج عن توجّهات طهران والذي أصاب الشيعة في لبنان والذين لطالما عُرفوا بالحيوية السياسية! في اوائل نيسان (إبريل) عُقِد في بيروت لقاء بين وزيرالصحة اللبناني حمد الحسن ونظيره العراقي حسن تميمي، ولقد لفتني أن صورتين تصدّرتا قاعة الاجتماعات واحدة للإمام الخميني وأخرى للإمام علي خامنئي. صحيح ان الاجتماع عُقِد في إحدى قاعات مستشفى الرسول الاعظم الذي تم تمويل تشييده من طهران، لكن ألم يكُن من اللياقة ان توضع صورة لرئيس الجمهورية وتيّاره السياسي الحليف لطهران و”حزب الله” الممثّل الشرعي والوحيد لطهران في لبنان؟!

سقى الله زمناً، حين نزع قسم لا يُستهان به من اللبنانيين صور جمال عبد الناصر من على جدران منازلهم ومكاتبهم ومحلاتهم واستبدلوها بصور لرئيس البلاد والذي كان فوق الكل ولكن مع الكل وجَهِدَ وعَمِلَ لوحدة لبنان واللبنانيين، كان الرئيس-وهو العملاق مقارنةً بنظرائه السابقين واللاحقين- الذي شَهِد له الجميع بوطنيّته وحكمته وصواب رؤيته وتجرّده ونزاهته. كان ذلك زمن الراحل الكبير الرئيس الأمير اللواء (وهو يستحق كل تلك الالقاب عن جدارة) فؤاد شهاب.

رحمات الله عليك فخامة الرئيس ….!

  • عبد الرحمن عبد المولى الصلح هو كاتب ومحلل سياسي لبناني.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى