بينَ حربٍ ووعودٍ مُؤَجَّلة: هل يستعيدُ لبنان أنفاسَه الاقتصادية؟
في لحظةٍ فارقة من تاريخه الاقتصادي، يقفُ لبنان أمامَ فرصةٍ نادرة لكسر حلقة الانهيار واستعادة الثقة بالدولة، شرطَ أن يقترنَ الإصلاح بالشجاعة السياسية والحوكمة الرشيدة.

الدكتورة ليلى داغر وإيزابيل-يارا نصّار*
تلوحُ أمامَ الاقتصاد اللبناني فُرصةً نادرة للانتعاش في ظلِّ أزماتٍ متفاقمة ومتشابكة. فمنذُ العام 2019، يعيش لبنان حالةً من عدم الاستقرار والاضطراب الاقتصادي العميق، ومحدوديةً في قدرات الدولة، وضعفًا في السيادة، واستمرارًا للتوترات الإقليمية. وقد أكّدَ الاقتراح الأخير الذي قدمه المبعوث الأميركي الخاص توم برّاك على ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، مع تجديد التركيز على ترسيم الحدود مع سوريا وإسرائيل. أما موقف المانحين الدوليين الحازم، المتمثّل في قاعدة “لا مساعدات من دون نزع السلاح”، فيعكسُ حقيقة أنَّ التعافي الحقيقي للبنان لن يتحقّقَ إلّا من خلال معالجة التحديات الأمنية مُباشرةً وبحزم.
إنَّ استعادةَ الثقة، داخليًا ودوليًا، بالحكومة اللبنانية، مرهونةٌ في نهاية المطاف باتخاذ خطواتٍ ملموسة نحو الإنعاش الاقتصادي. فوجودُ قضاءٍ مستقل، وإدارة شفافة، وتشريعات قابلة للتنفيذ، هي مقوّمات لا غنى عنها لإثبات التزام لبنان بالحوكمة الرشيدة. ويُعَدُّ الحصولُ على برنامجِ دعمٍ من صندوق النقد الدولي، المشروط بإصلاحاتٍ مؤسَّسية ونزع السلاح، خطوةً حاسمة لفتح باب التمويل المرحلي واستعادة ثقة المستثمرين. تستعرضُ هذه المقالة أبرز الخيارات والسياسات التي يمكن أن تضعَ لبنان على مسار التعافي، من خلال إعادة بناء الثقة عبر إصلاح القضاء والحوكمة، والاستثمار في البنية التحتية الرقمية، وتعزيز النمو المستدام بالتكامل الإقليمي والابتكار، مع المواءمة بين الإنعاش الاقتصادي وإعادة هيكلة الدين السيادي.
الاقتصاد اللبناني المتعثّر وطريقُ التعافي
يقفُ لبنان اليوم عند مفترق طرق خطير. فالاقتصادُ الذي أرهقته الأزمات المتزامنة والحرب الأخيرة بين “حزب الله” وإسرائيل، تَراجَعَ ناتجه المحلي الإجمالي الحقيقي بأكثر من 38% منذ العام 2019، وانكمشَ بنسبة 6.6% في العام 2024 وحده بسبب تداعيات الحرب. أما الدين العام، فقد تجاوز 357% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022، في حين أدّى انهيار القطاع المصرفي إلى فقدان الليرة اللبنانية أكثر من 97% من قيمتها. وبلغ التضخُّم مستوياتٍ غير مسبوقة، ما أدّى إلى انتشار واسع للاقتصاد النقدي بالدولار وزيادة حدّة التدهور المالي. يعيشُ أكثر من 80% من اللبنانيين اليوم في فقرٍ مُتعدِّد الأبعاد، فيما تلاشت الطبقة الوسطى تقريبًا، ما يثير مخاوف جدّية من التفكُّك الاجتماعي.
الحربُ الأخيرة مع إسرائيل تسببت بأضرارٍ تُقدّرُ بنحو 11 مليار دولار في البنى التحتية، وأحدثت شللًا عميقًا في قطاعات الزراعة والسياحة والصناعة. هذه الخسائر، إلى جانب ضعف قدرة الدولة على تنفيذِ أيِّ إصلاحٍ منذ العام 2020 —كقانون المنافسة الصادر في العام 2023 الذي لا تزال مراسيمه التنفيذية معلّقة، والهيئة المعنية بتطبيقه التي لم تُعيَّن بعد— عمّقت تآكل الثقة بالحكومة وعرقلت أيَّ تقدُّمٍ اقتصادي. وهكذا بقيت التوقّعات بالنمو معلّقة، فيما تسبّبت الأزمة الاقتصادية المُزمِنة بانفجار موجة هجرة جديدة للعقول والشباب المتعلّمين منذ العام 2019، الأمر الذي يُشكّلُ تهديدًا طويل الأمد لفُرَص التعافي. ومع استمرار الشلل السياسي وضعف المؤسّسات، فقد تراجعت ثقة المستثمرين إلى أدنى مستوياتها.
لا يقتصرُ ضعف المصداقية على تقييد تدفُّقات رأس المال فحسب، بل يحدّ أيضًا من التخطيط الاستثماري طويل الأجل، ويقوّضُ الثقة في آفاق الإصلاحات الاقتصادية الأوسع نطاقًا. وقد أبرزت هذه التحديات الحاجة إلى المساعدة الدولية. إلّا أنَّ المانحين الدوليين ما زالوا يصرّون على موقفهم: لا دَعمَ ماليًا قبل نزع سلاح “حزب الله”، باعتبارِ هذه الخطوة شرطًا أساسيًا للسلام الإقليمي والاستقرار الاقتصادي. وقد أكّد المبعوث الأميركي توم برّاك ذلك من خلال خريطةِ طريقٍ تنفيذية تمنح الدولة وحدها حق احتكار السلاح وتكفل سيادتها على حدودها.
في زمنٍ انتهت فيه سياسات الإنقاذ غير المشروطة، يُواجِهُ لبنان واقعًا اقتصاديًا قاسيًا: التعافي لن يأتي من الخارج، بل من الاستثمار الداخلي المستدام ومن اندماجٍ فعلي وهادف في الأسواق الإقليمية. ورُغمَ أنَّ الحكومة بدأت خطواتٍ محدودة وأبدت استعدادًا للإصلاح، فإنَّ ثقة المستثمرين لا تزال شبه معدومة، وتدفُّقات رؤوس الأموال ضئيلة جدًا. لجذبِ استثماراتٍ طويلة الأجل، لا بُدَّ للبنان من أن يُقدمَ أكثر من الوعود؛ فهو بحاجة إلى وضوحٍ في القوانين، وإصلاحٍ في البنية التنظيمية، وشفافيةٍ في الحوكمة المالية. وفي الوقت نفسه، يتعيّنُ دعم القطاعات المنتجة —الزراعة والصناعة والخدمات— بسياساتٍ تُمكّنها من المنافسة واستيعاب الاستثمارات الجديدة. ويبقى السؤال الجوهري: كيف يمكن للبنان أن يربطَ بين هذه الإصلاحات وأن يؤسّسَ نموذجًا اقتصاديًا حديثًا قائمًا على الابتكار والتكامل الإقليمي ومواجهة تحدّياتٍ أخرى مثل هجرة الأدمغة؟ فسيادةُ القانون هي الركيزة التي لا يمكن لأيِّ نهضة أن تقومَ من دونها.
إعادةُ بناء الثقة من خلال الوضوح التنظيمي وتحسين الحوكمة
لكي تؤدي التشريعات إلى تغييرٍ حقيقي، ينبغي أن تتضمّنَ إصلاحاتُ لبنان المستقبلية آلياتَ تنفيذٍ فعّالة، وهو ما كان غائبًا في الماضي وساهم في ترسيخ الفساد. ويُمكِنُ للتحسينات في السياسات المالية والقضائية أن تحدث أثرًا واسع النطاق في مختلف القطاعات وفئات سكانية فرعية متعددة، مما يسمح بحلولٍ فعالة وشاملة. وتُعَدُّ استعادة مصداقية مصرف لبنان خطوةً أساسية لإعادة الثقة داخليًا وخارجيًا. فالشفافية في السياسات النقدية، وإجراء تدقيق مالي دوري، وإدارة العجز المالي بتوازن مع الإنفاق الاجتماعي القائم على بيانات دقيقة، كلها تدابير ضرورية للحفاظ على الاستقرار خلال مرحلة الإصلاح. وفي ظلِّ محدودية قدرات الإدارة المركزية للإحصاء، يمكن للمؤسّسات الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية أن تؤدّي دورًا مساندًا في جمع البيانات وتحليلها بما يخدم التخطيط الاقتصادي الرشيد.
كما إنَّ إنشاءَ هيئة رقابية مستقلة للتحقيق في الاحتكارات، وفرض العقوبات، وتعزيز الشفافية، باتَ ضرورة لتنفيذ قانون المنافسة لعام 2023 ودفع السياسات الجديدة قدمًا. وتشملُ الإجراءات المكمّلة تبسيط تراخيص الأعمال، وحماية حقوق الملكية، وتحسين بيئة الاستثمار. ووفقًا لتقرير الإسكوا لعام 2023، حصل لبنان على 3.93 نقاط (مستوى متوسط) في مؤشر قانون المنافسة، مقابل أكثر من 6 نقاط لكلٍّ من السعودية ومصر (مستوى قوي جدًا). ويمكن للبنان أن يستفيدَ من تجربتيهما في تطوير الإطار التنظيمي وتعزيز آليات التنفيذ.
أما إصلاحُ القضاء فيشكّل خطوةً أساسية وحجر الزاوية لجذب الاستثمار. فالقانونُ الجديد لاستقلال القضاء الذي أقرّه البرلمان في 31 تموز (يوليو) 2025 يمثّل خطوة إيجابية وبداية واعدة، رُغمَ وجودِ ثغراتٍ متبقّية تحدّ وتُعيقُ التطوير المؤسّسي. فالسلطات الممنوحة للمدَّعين العامين المُعيَّنين من الحكومة لتعليق ووقف التحقيقات، إلى جانب التدخل السياسي المستمر في التعيينات القضائية، يُقلّلان من فعالية النظام القضائي بشكلٍ عام. إنَّ مواءمة عملية اختيار القضاة مع المعايير الدولية ستُعيدُ الثقة المفقودة جراء سنوات من الإفلات من العقاب وانعدام الكفاءة، لأنَّ استقلالَ القضاء هو شرطٌ أساسي لبناء بيئةٍ استثمارية سليمة ومحاربة الفساد.
في موازاةِ ذلك، يتطلّبُ الحدُّ من انتشار الاقتصاد النقدي جهودًا مكثَّفة ومُنَسّقة لإدماج القطاع غير الرسمي ضمن الاقتصاد المنظّم لإضفاء الطابع الرسمي على القطاع غير الرسمي. ويشملُ ذلك تشجيع المعاملات الرقمية عبر حوافز ضريبية، وتوسيع استخدام التوقيع الإلكتروني، وإدماج العمال غير الرسميين في أنظمة الضرائب والضمان الاجتماعي. فهذه الخطوات توسّع القاعدة الضريبية، وتحدُّ من الفساد، وتُعزّزُ الشفافية. كما يجب سد الثغرات القانونية، وتعزيز التعاون الدولي لمكافحة التهرُّب الضريبي من قبل الأفراد الأثرياء والشركات الكبرى. والمساءلة هنا ضرورية: إذ يجب أن تترافق إعادة هيكلة القطاع العام مع تدقيق شامل للموظفين، وإلغاء الوظائف المكرَّرة، وتدريب الكوادر لمواكبة التحوُّل الرقمي. واعتماد الحكومة الإلكترونية —في مجالات الترخيص، والمشتريات، والضرائب— سيقلص البيروقراطية، ويعزز المساءلة، ويوجه الموارد نحو الاستثمار الإنتاجي.
في حين أنَّ هناكَ خطرًا يتمثّل في أنَّ النخب والأحزاب الطائفية المترسِّخة قد تُعزِّزُ سلطتها بشكلٍ أكبر، إلّا أنَّ انتخابات العام 2026 المقبلة قد تحمل في طيّاتها بوادرَ أملٍ لبرلمانٍ أكثر انفتاحًا على الإصلاح – خصوصًا إذا تم تنفيذ نزع سلاح “حزب الله” فعليًا، واستُوفِيَت شروط المانحين، واكتسبت مبادرات الإصلاح الأخرى زخمًا. وهذا من شأنه أن يُمكّن الطموحات من تسريع الإصلاحات، وتطوير آليات التنفيذ، ومراجعة السياسات غير المواتية المتبقية. في غضون ذلك، يجب على الهيئة التشريعية الحالية المضي قدمًا في الإصلاحات بشكلٍ استباقي لبناء الزخم واستعادة الثقة. إنَّ إعطاء الأولوية لإنفاذ التشريعات القائمة، والالتزام بالحوكمة الشفافة، وإظهار المساءلة المؤسّسية، أمورٌ بالغة الأهمية لاستعادة الثقة وتعزيز الاستقرار الاقتصادي في المدى الطويل.
البنية التحتية في العصر الرقمي: ركيزة التعافي
في عصرِ الاقتصاد الرقمي، لم تَعُد البنية التحتية التكنولوجية ترفًا، بل شرطًا أساسيًا للنهوض والانتعاش الإقتصادي. فشبكاتُ الاتصالات المتهالكة والمُتضرّرة من الحرب تحتاجُ إلى تحديثٍ فوري لدعمِ اقتصادٍ قائمٍ على الابتكار. وتُعَدُّ الاتصالات السريعة والمُيَسّرة عاملًا حاسمًا. ويُمكن إدخال خدمات مثل “ستارلينك” لتوفير الإنترنت عالي السرعة للمناطق النائية، ما يسدُّ الفجوة الرقمية ويفتح آفاقًا جديدة للعمل عن بُعد والتجارة الإلكترونية ونمو قطاع التكنولوجيا المالية. إلى جانب إصلاح قطاع الكهرباء، يُمكن لهذه الإجراءات أن تُساعدَ على خفضِ التكاليف التشغيلية للشركات والأُسَر، بالإضافة إلى جذب الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا والعائدين من الشتات. لطالما عانى قطاع الكهرباء في لبنان من مشاكل مزمنة، بما في ذلك انقطاع التيار الكهربائي بشكلٍ متكرر، والاعتماد على واردات الوقود باهظة الثمن، وسوء الإدارة في شركة كهرباء لبنان، مما أدّى إلى انقطاعاتٍ يومية تتراوح في المتوسط بين 12 و20 ساعة. وقد دفعت هذه التحديات، التي تفاقمت بسبب نقص الوقود وسوء صيانة البنية التحتية، الشركات إلى الاعتماد على مولّدات خاصة باهظة الثمن، مما أدى إلى تضخُّم التكاليف وثبط الاستثمار. إنَّ إعطاءَ الأولوية للإصلاحات، مثل تحديث شركة كهرباء لبنان، وتوسيع نطاق استخدام الطاقة المتجددة، وتأمين واردات الطاقة الإقليمية، من شأنه أن يُسهِمَ في استقرار الإمدادات وخفض التكاليف. كما إنَّ إنشاء شبكات ربط إقليمية لاستيراد الكهرباء بأسعارٍ معقولة من دول الخليج، مثل المملكة العربية السعودية، حيث الإنتاج فعّال من حيث التكلفة، من شأنه أن يوفّرَ إمدادات موثوقة ويعالج النقص بسرعة، مما يُسهِمُ في تعزيز الاستقرار الاقتصادي.
إنَّ تطويرَ البنية التحتية الرقمية ونشر شبكات الألياف الضوئية وشبكات الجيل الخامس على مستوى البلاد من شأنه أن يعزز منظومة الذكاء الاصطناعي، وسلسلة الكتل، والخدمات الرقمية. وبدون ذلك، يُخاطر لبنان بمزيد من العزلة عن الأسواق العالمية. ينبغي للشراكات بين القطاعين العام والخاص إعطاء الأولوية لهذه التحديثات، مع ربط الجهات المانحة الدولية للمساعدات بالتقدم الملموس. لن يقتصرَ دور الطاقة الموثوقة والاتصال الرقمي على الحد من هجرة الأدمغة من خلال خلق فرص عمل مجدية فحسب، بل سيُضفيان الطابع الرسمي على الاقتصاد أيضًا من خلال رقمنة المعاملات وتقليل الاعتماد على النقد.
دفع عجلة النمو المستدام
يتمتّع لبنان بفرصةٍ استراتيجية لتعزيز بيئته التجارية. ويؤكد مقترح برّاك المذكور سيادة لبنان وسيطرته على حدوده. ويمكن الاستفادة من خطط ترسيم الحدود مع سوريا وإسرائيل لتسهيل توسيع التجارة البرية مع الدول المجاورة، مما يجعل لبنان مركزًا إقليميًا. وسيسمح ترسيم حدود لبنان بإنشاء معابر حدودية رسمية إضافية، ويساعد على تعزيز التجارة القانونية عبر الحدود. وسيؤدي ذلك في الوقت نفسه إلى تحسين سيطرة الدولة وإشرافها على الممرات البرية، ومكافحة شبكات التهريب. وبالتوازي مع ذلك، فإنَّ تعزيزَ العلاقات التجارية مع دول الخليج من خلال اتفاقيات محدثة وخدمات لوجستية حديثة من شأنه أن يضخَّ رأس المال الأجنبي الذي تشتدُّ الحاجة إليه في الاقتصاد.
لتحقيق هذه الإمكانات، يُعَدُّ الاستثمارُ في تحسين البنية التحتية التجارية للبنان أمرًا بالغ الأهمية. سيزيد تطوير الموانئ، وتحسين ممرات الطرق، ودراسة إنشاء خطوط السكك الحديدية، من القدرة التجارية للبنان بشكلٍ كبير. يمكن للبنية التحتية المُحسّنة جذب التمويل الدولي الذي من شأنه دعم التكامل الإقليمي وإطلاق العنان لإمكانات التصدير التي تُعتَبَرُ أساسيةً للانتعاش الاقتصادي. يجب أن يحصل المنتجون المحليون في الزراعة والصناعة والخدمات على دعمٍ مُوجّه -مثل دعم التحديث والوصول إلى الأسواق الإقليمية- ليتمكنوا من المنافسة بفعالية واستيعاب رأس المال الوافد.
يُعدّ دعمُ الابتكار وإبطاء هجرة العمالة الماهرة والمهنية خطواتٍ حيوية للتعافي طويل الأمد. يمكن أن يجذبَ تقديم الإعفاءات الضريبية والحوافز ومنح الشركات الناشئة المهنيين المغتربين للعودة إلى بيئة أكثر استقرارًا وتشجيعًا. يمكن أن يُولّد استهداف الاستثمار في التكنولوجيا والقطاعات الخضراء -مثل الطاقة الشمسية والتكنولوجيا المالية والخدمات الرقمية- وظائف عالية القيمة للمواهب الشابة. سيؤدي إنشاء شراكات بين القطاعين العام والخاص في مجال البحث والتطوير والتدريب المهني إلى إعادة بناء رأس المال البشري تدريجًا وإبطاء الهجرة. وفي العصر الرقمي، يتعيّن أن تتوافق هذه الجهود مع تحديث البنية الأساسية: فالكهرباء الرخيصة والاتصالات السريعة سوف تعملان على تمكين المبتكرين، في حين يضمن إضفاء الطابع الرسمي على الاقتصاد غير الرسمي فرض الضرائب على المكاسب الريادية وإعادة استثمارها بشكل مستدام.
موازنة الانتعاش الاقتصادي مع أزمة الديون السيادية
يتعيّنُ على لبنان الإسراع في المفاوضات مع الدائنين لإعادة هيكلة ديونه الخارجية. وكما ذُكر سابقًا، تجاوز الدين العام 357% من الناتج المحلي الإجمالي اعتبارًا من العام 2022. وبلغت سندات اليوروبوند، التي تُمثل 95% من الدين الخارجي للبنان، 39.2 مليار دولار في العام نفسه، بعد التخلف عن السداد وتراكم الفوائد. ومع ذلك، من غير المرجح أن يوافق الدائنون على إعادة هيكلة الدين بدون برنامجٍ فعّال لصندوق النقد الدولي. لذلك، يُعدّ التعاون مع صندوق النقد الدولي أمرًا بالغ الأهمية. لدى لبنان فرصة لتأمين برنامج مشروط بالإصلاحات المذكورة آنفًا. إنَّ تعزيزَ إنفاذ القانون، وتعزيز شفافية البنك المركزي، ونجاح نزع سلاح “حزب الله”، أمورٌ أساسية لتعبئة وجذب الأموال. سيوفر هذا تمويلًا مؤقتًا تشتدُّ الحاجة إليه، مع الإشارة إلى التزام لبنان بالحوكمة الرشيدة والمسؤولية المالية. ويمكن لبرنامج صندوق النقد الدولي أيضًا أن يُطبّق إعادة هيكلة القطاع العام، ويفرض تكامل الحكومة الإلكترونية ومساءلة الموظفين لتبسيط العمليات وتخفيف الأعباء المالية.
وتتضمن إحدى الاستراتيجيات الواعدة لتكملة الانضباط المالي إصدار سندات خضراء. يمكن استخدام هذه الموارد لتمويل مشاريع مستدامة تُركز على البنية التحتية للطاقة، وتجذب المستثمرين في مجالات البيئة والمجتمع والحوكمة من خلال مواءمة الاستراتيجية المالية للبنان مع اتجاهات الاستدامة العالمية. علاوة على ذلك، فإنَّ تطبيق ضرائب تصاعدية، مثل زيادة الضرائب على السلع الفاخرة والأفراد ذوي الثروات الكبيرة والشركات، من شأنه أن يزيد الإيرادات الحكومية. وفي الوقت نفسه، يُمكن للرقمنة الكاملة للمشتريات العامة أن تُقلل من الفساد والتسربات المالية. ولتجنب الوقوع في فخاخ التقشف، ينبغي تخصيص جزء من الإيرادات الجديدة لشبكات الأمان الاجتماعي لحماية الفئات الأكثر ضعفًا خلال عمليات التكيف الاقتصادي. إنَّ الإدماج الشامل ودعم المواطنين يُمكن أن يُساعد على ضمان ألّا يفتح الانتعاش الاقتصادي الباب أمام الاضطرابات الاجتماعية.
إنَّ لبنان اليوم أمام لحظةٍ حاسمة بين الانهيار والتعافي. فاغتنام هذه الفرصة يتطلب إرادة سياسية واضحة لبناء الثقة بالدولة ومؤسساتها. نزع سلاح “حزب الله” هو الأساس لضمان السلام واستعادة ثقة المستثمرين والمجتمع الدولي. أما استثمار الفرص الإقليمية والانفتاح على دول الخليج، فيمكن أن يشكّلا نقطة انطلاق لانتعاش اقتصادي جديد. سيادة القانون، والبنية التحتية الرقمية، والإصلاحات المدعومة من صندوق النقد الدولي، والمساءلة الإدارية، تشكل ركائز هذا المسار. إنَّ هذه اللحظة التاريخية تتطلب إصلاحات جريئة وشفافة، لأنَّ التعاون والعمل المنسَّق وحدهما كفيلان بضمانِ مستقبلٍ آمنٍ ومستقرٍ ومزدهرٍ للبنان.
- الدكتورة ليلى داغر هي المديرة المؤسسة لمركز العمل السياسي، وأستاذة مشاركة في الاقتصاد والسياسات في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU)، وهي محاضرة مساعدة في جامعة جورج واشنطن منذ العام 2016. قبل انضمامها إلى الجامعة اللبنانية الأميركية، درّست الدكتورة داغر لمدة 15 عامًا في الجامعة الأميركية في بيروت.
- إيزابيل-يارا نصار حاصلة على بكالوريوس العلوم في الشؤون الدولية من معهد جورجيا للتكنولوجيا (2023)، وتدرس حاليًا للحصول على درجة الماجستير في التنمية الدولية في معهد العلوم السياسية بباريس. وهي زميلة في مركز العمل السياسي التابع للجامعة اللبنانية الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.