رهانُ ترامب في غزة قد يَنفَجِرُ قبلَ أن يُؤتي ثمارَهُ

كابي طبراني*

يُقدَّمُ اتفاقُ السلام الجديد في غزة، الذي أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بوصفه اختراقًا تاريخيًا — أولَ فُرصةٍ حقيقية منذ سنوات لإنهاءِ حربٍ مُدَمِّرة. فبموجب الصفقة، وافقت حركة “حماس” على إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين مُقابل الإفراج عن نحو ألفي أسير فلسطيني وانسحابٍ جُزئي للقوات الإسرائيلية من القطاع. بدا المشهدُ في ظاهره مُبَشِّرًا: المساعداتُ الإنسانية بدأت تتدفّق، العائلاتُ تتنفّسُ الصعداء، وواشنطن تتباهى بأنها أعادت النظامَ إلى شرقِ أوسطٍ مُضطَرِب.

لكن ما إن تُدقّق النظر بطريقة أعمق، حتى يتَّضِح أنَّ هذا الاتفاقَ مُعرَّضٌ للتداعي. تحت بريقِ الصور والابتسامات الديبلوماسية، يستندُ “سلامُ ترامب” إلى أساسٍ هشٍّ من الحساباتِ السياسية والمصالح المُتناقضة وانعدام الثقة المُتبادَل. وربما ينهارُ بالسرعة نفسها التي وُقِّع بها.

يُمثّلُ هذا الاتفاقُ حجرَ الأساس في محاولة ترامب الثانية لإعادة ترتيب الشرق الأوسط وإثبات أنَّ واشنطن ما زالت قادرة على قيادة اللعبة بعد عامين من الفوضى وسفك الدماء. خلال أسابيعه الأولى في البيت الأبيض، أعادَ فتحَ قنواتٍ سرّية مع “حماس”، استأنف المفاوضات النووية مع إيران، ورفع العقوبات عن سوريا — في حراكٍ ديبلوماسي صاخب هدفه إظهار أنه وحده يستطيع أن يوقف نزيف المنطقة.

لكن رؤية واشنطن للاستقرار تصطدمُ مرةً أُخرى بحقيقةٍ ثابتة: إسرائيل لا تبحث عن سلامٍ دائم، بل عن تفوُّقٍ دائم. وكما كتب الباحثان في مجموعة الأزمات الدولية ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، على التوالي، جوست هيلترمان ونتاشا هول، فإنَّ الولايات المتحدة وإسرائيل لم تتشاركا يومًا الأهداف الاستراتيجية نفسها، مهما تظاهرتا بذلك. واشنطن تُريدُ الهدوءَ لتُعيدَ نشرَ مواردها نحو آسيا؛ أمّا إسرائيل فتريدُ السيطرة الكاملة، ولو على حساب حلفائها.

ولا أحد يُجسّدُ هذا التناقُض أكثر من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. بعدَ سنواتٍ في الحكم وملاحقات قضائية بتُهَمِ الفساد، يتصرّفُ نتنياهو كزعيمٍ لا يملكُ شيئًا ليخسره. بقاؤه السياسي مُرتَبطٌ ببقاءِ الحرب مُشتَعِلة؛ فشركاؤه في اليمين المتطرّف يعيشون على شعارات القوة والانتقام. بالنسبة إليه، وقف إطلاق النار ليس نهايةَ الصراع بل استراحةٌ قصيرة ضرورية للبقاء في السلطة.
يصفه الباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن ناتان ساكس بأنه “رجلٌ مُصابٌ بمرض السلطة الطويلة، مُقتنعٌ بأنَّ لا بديلَ منه وله”. هذه القناعة جعلت من الحرب عادة، ومن السلام تهديدًا.

ومع ذلك، سجّلَ ترامب سابقة في العلاقات الأميركية-الإسرائيلية: فقد ضغطَ على نتنياهو علنًا وأجبره على توقيع الاتفاق، في مشهدٍ لم يعرفه أي رئيس أميركي من قبل. المفاوض المخضرم الأميركي آرون ديفيد ميلر وصفه بأنه “حدثٌ غير مسبوق” في التاريخ الديبلوماسي الأميركي. لكن الضغط وحده لا يصنع سياسة، ولا يضمن التزام نتنياهو بعد أن تغيب الكاميرات.

على الجانب الآخر، لم تَعُد “حماس” كتلةً واحدة كما كانت. وكما فعلَ اغتيال السيّد حسن نصرالله بـ”حزب الله” في لبنان، فقد حطّم اغتيالُ يحيى السنوار مركز القيادة في الحركة، فانتقلت القرارات إلى مجالس متفرّقة بين غزة ولبنان وقطر، ما جعل عملية التفاوض بطيئة ومتخبّطة. يقول المحلل الفلسطيني خليل الشقاقي إنَّ الحركة باتت تُقاتل من أجل البقاء أكثر من أيِّ مشروعٍ سياسي: “لم تَعُد تسعى إلى دولةٍ مُصَغّرة في غزة، بل إلى مجرّد استمرار وجودها”.

هذا الواقع جعل “حماس” يائسة ومُتَقلّبة معًا — مستعدّة للتفاوض، لكنها لا تمنح الثقة لأحد. ومع بقاء إيران مُمسِكة بخيوطِ جناحها العسكري، فإنَّ احتمالَ نزعِ سلاحها بالكامل يكاد يكون معدومًا. وحتى إن وقّعت “حماس” على الاتفاق، فستلتزم بنصّه لا بروحه.

أما خطة ترامب نفسها، فتعجُّ بالتعقيدات. فداخل قطاعٍ صغير كغزة، من المفترض أن تعمل أربع قوى مسلّحة معًا: الجيش الإسرائيلي، وبقايا “حماس”، والشرطة الفلسطينية، وقوة استقرار دولية. وفوق كل ذلك، “مجلس السلام” برئاسة ترامب شخصيًا، يشرف على الإعمار والأمن. بالنسبة إلى الفلسطينيين، تبدو هذه المنظومة أقرب إلى إدارة استعمارية جديدة منها إلى سلامٍ حقيقي. وكما قال الشقاقي: “في نظر الفلسطينيين، ترامب ونتنياهو وجهان لعملةٍ واحدة. فكيف سيُنهي هذا الواقع الحرب؟”.

الخللُ الأعمق أنَّ الصفقة تفترضُ أنَّ جميعَ الأطراف تُريدُ السلام. لكن الواقع عكس ذلك: نتنياهو يحتاج إلى الصراع ليُحافظَ على ائتلافه، و”حماس” تحتاجه لكي تبقى على الخريطة، وترامب يحتاجه كعرضٍ مسرحي جديد يُثبتُ قدرته على عقدِ الصفقات. تلك هي وصفة الفشل السريع لأيِّ اتفاق.

في الأثناء، تُواصِلُ إسرائيل مُمارساتها التي تقوّضُ أهدافَ واشنطن نفسها. فقد وسّعت المستوطنات في الضفة الغربية، قصفت إيران ولبنان وسوريا، وهاجمت مفاوضي “حماس” في قطر — الدولة التي تستضيف أهم قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة. ومع كل تجاوز، التزمت واشنطن الصمت. وهكذا، كما يقول هيلترمان وهول، تحوّلت إسرائيل إلى “وكيل فوضى” قادر على جرّ الولايات المتحدة إلى حروبٍ لا تريدها.

ترامب يؤكّد أنَّ هذه المرة مختلفة، وأنه سيُمسِكُ بزمامِ التنفيذ بنفسه. لكنه معروفٌ بتقلّبِ مواقفه وقراراته. فهل سيُجازف بصدامٍ علني مع نتنياهو إذا خرقت إسرائيل الاتفاق؟ أم سيفعل كما فعل أسلافه، يغضُّ الطَرفَ ويُبرِّر؟

الحقيقة أنَّ لدى واشنطن أوراقَ ضغطٍ قوية: المساعدات العسكرية، الدعم الديبلوماسي، والمكانة الدولية. لكن تلك الأوراق لا قيمةَ لها إن لم تُستَخدَم. رؤساءٌ سابقون استخدموها بشجاعة: دوايت أيزنهاور أجبر إسرائيل على الانسحاب من سيناء في العام 1956، وجورج بوش (الأب) جَمّدَ القروض بسبب التوسُّع الاستيطاني. أما اليوم، فتبدو أميركا كراعٍ يخشى من ربيبه المُسَلّح.

بالنسبة إلى عائلات الرهائن، ولسكان غزة الذين يعيشون على حافة المجاعة، يظلُّ هذا الاتفاق بارقة أمل. وقف النار — ولو مؤقتًا — يُنقذُ الأرواح. لكن سلامًا يقوم على الوهم لن يدوم. ما لم تُواجه واشنطن التطرُّف في “حماس” والعدوانية في الحكومة الإسرائيلية معًا، وتفرض مصالحها فوق نزوات حلفائها، فإنَّ اتفاقَ غزة سيلتحق قريبًا بقائمة طويلة من تجارب السلام الأميركية الفاشلة.

ترامب أرادَ أن يصنع معجزة ديبلوماسية تُعَرِّفُ إرثه. لكنه قد يجد نفسه، بدلًا من ذلك، أمام صفقةٍ لامعة في ظاهرها، قابلةٍ للانفجار في جوهرها — صفقة احتاجها الجميع، لكن لم يؤمن بها أحد.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى