“لبنان قلبُ الله”
هنري زغيب*
كثيرًا ما قرأْنا وكتَبْنا أَنَّ بين معاني التسميات الـمُرجَّحَة للبنان: المعنى السائدُ “لُبّ أَنان” (اللُب بالأَكادية هو القلب، وأَنان اسم سومري للإِله)، ما يوجز أَن يعني الاسم “قلب الله”، لاشتهار جبال لبنان في القِدَم موطنًا للآلهة.
من هذه التسمية، والأُخرى الفينيقية بمعنى “الأَبيض” لتَكَلُّلِ جبال لبنان بالثلج طويلًا، عَنْوَن نقولا صحناوي كتابَه الجديد “لبنان قلب الله”. صدَرَ عن منشورات “دار سائر المشرق”، بالفرنسية أَصلًا، وبالعربية الأَنيقة كما صاغها الشاعر حبيب يونس وسندي شامي. في هذا المناخ الفينيقي اللبناني، يحمل الكتابُ مقدمةً من الكاتب اللبناني الفرنكوفوني العنيد بلُبنانيته أَلكْسندر نجار، الذي نوَّه بأَنَّ المؤَلف “نائب يستحضرُ في كتابٍ صفحاتٍ جُلَّى من تاريخ بلاده”. يتوازى نشْرُهُ مع إِنشاء “كرسي الدراسات الفينيقية” في جامعة القديس يوسف، فيكون هذا الكتاب أَحد المراجع.
وإِنه فعلًا مرجعيٌّ. مع أَن مؤَلِّفه لا يدَّعي اختصاصًا في التاريخ أَو الآثار. فهو تقميشُ نحوَ 220 اسمًا بين شخصياتٍ وأَماكنَ ورُمُوزٍ ذاتِ علاقة بلبنان وفينيقيا، بلوغًا إِلى أَن بَصمة فينيقيا الجغرافية والتاريخية تتَّفق إِلى حد بعيد مع حدود لبنان الحالية.
لأَن للكتاب عنوانًا ثانويًّا لافتًا: “رواياتٌ وأَساطيرُ من العصور القديمة والوُسطى”، يلْفِتُ في مطلعه أَنْ تتَصدَّره أَقوال عالَمية عن لبنان، منها قولةُ الدبلوماسي والمؤَرخ الفرنسي غبريال هانوتو: “إِن لم يكُن لبنانُ بين أَعلى الجبال في العالَم، فهو أَعلى قمة في التاريخ”، وقولةُ جيرار دونرفال: “ليس مَن يَجرُؤُ على التشكيك بلبنان، وشاطئُه مهدُ جميع معتقدات العالم”.
حين وعى الكاتبُ دورَ أَجداده الفينيقيين خميرةَ الحضارة الغربية، في الدين والأَدب والرياضيات والحقوق والفيزياء النووية والجغرافيا والفلسفة، انكَبَّ على جمْع لآلئِ ما قيل وكُتِب وصدَر ونوقِشَ في مراجع عالَمية أَكاديمية ومتخصِّصة عن تاريخ هذا الوطن “الزغَيَّر ووسع الدني”. هكذا شكَّل كتابَه الدسِمَ من عشرة فصولٍ، جال بها على مفاصلَ عريقةٍ من التاريخ، منذ مطالع الحضارة الفينيقية، وما كساها ميثولوجيًّا من أَساطيرَ لا تزالُ حتى اليوم في التداول، وما رفَدَها من أَباطرةٍ وستةِ بابوات فينيقيين، ونحو 50 شخصية تاريخية وعلْمية وعسكرية وغُزاةٍ أَرضَ لبنان في حقبات مختلفة من التاريخ إِلى شخصيات أُسطورية وتاريخية مُغْرِقة في القِدَم.
ويخصِّص الكاتبُ صفحاتٍ جُلَّى ليسوعَ وأُسْرته، ويسوعَ وتلامذته، ويستطرد إِلى 33 قديسًا وشهيدًا على أَرض لبنان، فإِلى 51 موقعًا على علاقة بلبنان. ولا يَختُم كتابَه قبل أَن يُدرج ملحقَيْن رئيسَيْن: الأَولُ عن أَساطيرَ ونظرياتٍ تَرقى إِلى مرحلةِ ما قبل الطوفان، والآخَر عن الموارنة وأَثَرهم منذ القديس مارون إِلى البطريرك جبرايل حجولا.
هي ذي إِذًا، 300 صفحة من هذا السِفْر، تَضُمُّ بين دفَّتيه عالَمًا متكاملًا من الإِرث الفينيقي الغني عبر التاريخ، يتركه بين أَيدي مَن سيقرأُونه ويَعُون أَهميةَ كلِّ شبرٍ من أَرض لبنان، ويَفهمون مدى محاربةِ السِوى حقيقةَ وطنهم، من بني إِسرائيل إِلى اليونانيين إِلى الرومان، حاوَلوا طمْسَ الإِرث الفينيقي. لكنَّ الفينيقيين كانوا دومًا، على مدى التاريخ، يُثْبِتون حقيقتَهم ثقافيًّا وعلْميًّا وتجاريًّا بما لا يَشُوبُهُ شَكّ. ويذهب المؤَلف إِلى أَبعد، فيرى أَن الثقافة الفينيقية أَسهمَت في ثورة يَسوعَ على الديانة اليهودية فأَحَلَّ إِله المحبة إِيل مكانَ يَهْوَه إِلهِ الانتقام. واليوم، حاجة اللبنانيين القصوى حاليًّا أَن يَعُوا تاريخهم، فيعرفُوا أَن هويتهم اللبنانية ليست أَرزة على جواز سفر، بل فعلُ انتماءٍ إِلى أَرضٍ، إِرثُها مجدٌ ساطعٌ على جبين الصفحة الأُولى من كتاب التاريخ.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib



